مقالات
حرب فوق أجساد النساء.. العنف الجنسي والصراع في السودان
2025-05-30"لا – ليست مجرد تفلتات فردية!"
هكذا أجابتني الناشطة الشابة سارة عن سؤال ما إذا كانت الانتهاكات الجنسية في الحرب في السودان مجرد تفلتات فردية من المقاتلين أم فعلًا ممنهجًا تتبعه المليشيا المتمردة ضد المواطنات والمواطنين.
حكت لي سارة عن الكثير من المعايشات الشخصية، خلال بقائها لأكثر من عام في مناطق الحرب داخل العاصمة، وعملها ضمن عدد من المجموعات النسوية داخل مدينة الخرطوم وخارجها.
وفي حديثها، أكدت لي أن ما تمارسه المليشيا المتمردة من اعتداءات جنسية هو فعل ممنهج وأداة من أدوات الحرب مستشهدة بالعدد الصادم للحالات، وبما حدث ويحدث في إقليم دارفور من صراع معقد امتد لأكثر من عقدين من الزمان، وخلَّف آلاف من ضحايا الاعتداءات الجنسية.
موت ونزوح واعتداءات جنسية
التقيت سارة في العاصمة الأوغندية كمبالا، بعد رحلة نزوح لكل منا، رحلة تتشابه مع الآلاف من قصص الهجرات التي عاشها السودانيون بعد كارثة الحرب في قلب العاصمة الخرطوم، منذ شهر أبريل عام 2023.
بحلول الخامس عشر من أبريل عام 2025، ينقضي عامان بالتمام والإيلام على اندلاع حرب السلطة والثروة في السودان.
عامان من الإدارة الممنهجة للحرب فوق أجساد النساء، يستبيح فيها مرتزقة الميليشيات أجساد الفتيات وأمهاتهن من داخل بيوتهن وفي حضرة أهاليهن. عدد لانهائي من القصص ووقائع الاغتصاب الجماعي والتحرش، والانتحارات، والإجهاضات. بروتوكولات الحماية وأدويتها تجول المدينة في حقائب الناشطات المتدثرات بثياب أمهاتهن الفضفاضة بوجوه نصف مخفية، في محاولات لإخفاء هوياتهن وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في بحر من الضحايا كل يوم.
وفي غياب الإحصاءات الرسمية وضعف الوصول للضحايا والتغطية الاعلامية –تم رصد ما لا يقل عن 150 ألف قتيل بنهاية العام 2024 وفق تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية- ظلت وكالات الأمم المتحدة للمرأة والصحة الإنجابية تشارك أرقامًا صادمة عن حالات الاعتداءات الجنسية، أرقامًا تعكس بوضوح أن الانتهاك الجنسي هو أحد الأدوات الفاعلة والفتاكة والمنتشرة جدًا في هذه الحرب.
أعداد هائلة من السودانيات والسودانيين اضطروا للنزوح هربًا من الاقتتال والقصف والسطو مما عَرَّض أكثر من 5 ملايين امرأة -وفق تقارير وكالة الأمم المتحدة للنساء- لخطر الاعتداءات الجنسية في طرق السفر البرية و دور الإيواء غير المهيأة، بالإضافة إلى الخطر الجاثم حال قررن البقاء في منازلهن في أحياء شبه مهجورة بسبب نزوح السكان.

بسبب هذه الحرب، يحتضن السودان أكبر كارثة إنسانية في العالم اليوم مع نقص حاد في الغذاء والمأوى والخدمات الصحية، ما يضع أكثر من نصف السكان تحت تهديد الجوع (وفق تقرير مفوضية الامم المتحدة للاجئين في أغسطس 2024) وأفضى بالنساء وأسرهن إلى أوضاع بالغة التعقيد.
ضعف الرصد والتبليغ عن الانتهاكات
"فقط 1% من حالات الاغتصاب يتم التبليغ عنها في السودان"، هذه هي تقديرات الناشطة في غرف الطوارئ النسوية، ريم، والتي عكست تجربتها في دعم الناجيات من جرائم الاعتداء الجنسي داخل السودان. مضيفة أن الأعداد المرصودة لتلك الاعتداءات أقل بكثير من واقعها، ومرجئة ذلك إلى الوضع الأمني المعقد وصعوبة التواصل مع انقطاع شبكات الهواتف والإنترنت، بالإضافة إلى الخوف على السلامة الشخصية والخوف من الوصمة المجتمعية التي قد تلاحق الضحايا وأسرهن.
تشير الإحصاءات إلى أن 228% هي نسبة الزيادة في حالات الاعتداء الجنسي المسجلة في السودان بنهاية 2024، والتي رصدها برنامج الأمم المتحدة للنساء، منوهًا، في تقريره الصادر في ديسمبر 2024، بالضعف الواضح في التبليغ عن هذه الانتهاكات بسبب الخوف من الوصمة المجتمعية وغياب التوعية والدعم والإدماج.
وفقًا للإحصائية فالتقدير يقول بحدوث ما لا يقل عن 4000 حالة عنف جنسي فقط في العام الأول من الحرب (أبريل 2024). وكما هو متوقع، من الملحوظ ارتفاع في حالات الانتحار في أوساط الضحايا، والوفاة بسبب الإجهاضات والنزيف.
تاريخ مريع من الانتهاكات الجنسية
استدلت ريم في إفادتها على العديد من الأمثلة على استخدام الانتهاك الجنسي لـ (كسر) الطرف الآخر وإذلاله من خلال الوصمة الاجتماعية، كما حدث في حرب الجنوب (إحدى أطول الحروب الأهلية في العالم والتي انتهت بانفصال/استقلال جنوب السودان في عام 2011).
أشارت ريم أيضًا إلى استخدام العنف الجنسي في الصراعات السياسية وترويع الناشطات والناشطين. فالتعامل مع أجساد النساء كسوح للمعارك ليس بجديد في مساحات ظلت محكومة بذهنية تناسلية صَدَّرها الحكم الإسلاموي العسكري لأكثر من ثلاثين عامًا في السودان، اشتملت على التضييق وتهديد للناشطات السياسيات بسلاح الاعتداء الجنسي والتشهير الأخلاقي.
وفي هذا الإطار، تحضرني الكثير من قضايا الملاحقات القانونية والاعتداءات على الناشطات السودانيات، وربما أحد أشهر تلك القضايا هي القضايا الكيدية المتعددة التي واجهتها الناشطة في مجال حقوق الإنسان، ويني عمر، في 2017 حيث تمت ملاحقتها بتهمة تلو الأخرى من قبل السلطات، ببلاغات تضمنت الاتهام بارتداء زي فاضح وشرب الخمر وغيرها.

ظل ما يعرف بقانون النظام العام مشهرًا في وجه السودانيات، يتحكم في ملبسهن ويعرضهن للضرب والاعتداء ربما بسبب ارتداء بنطال يراه العسكري المسؤول ضيقًا أو غير ملائم، كما حدث مع الصحفية لبنى أحمد حسين، في قضيتها التي شغلت الرأي العام في 2009، حينما واجهت حكمًا بالغرامة أو السجن لارتدائها (بنطلون) يخل بالذوق العام.
النساء وأجسادهن للأسف ما زلن محورًا رئيسيًا لكل الصراعات السياسية والاقتصادية والاقتتال في السودان. وقد أصدر المرصد العالمي لحقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش)، إبان اشتعال الحرب في دارفور، الكثير من التقارير لوقائع الاغتصابات الجماعية في الإقليم، أتى على تفصيلها الكاتب إريك رييفز في بحثه المترجم تحت عنوان "ااستمرار الاغتصاب الجماعي للفتيات والمجتمع الدولي يغض عن أبشع الجرائم والأكثر فظاعة" الصادر في يناير 2016.
نساء في وجه الحرب
وبينما تُشَكِّل النساء الضحايا الأبرز لهذه الصراعات، يتقدمن كفاعل بارز في الحماية والرصد والدعم للضحايا. ما زالت المرأة السودانية تحجز مقعدًا متقدمًا في العمل الإنساني واستجابة الطوارئ في البلاد. النساء كذلك يدرن ملفات النزوح والتأقلم والاندماج ويحاولن رتق ما خلفته الحرب بالكثير من العمل والصبر.
فما يعرف بغرف الطوارئ النسوية (على سبيل المثال لا الحصر) هي أجسام قاعدية من الناشطات اللائي يعملن بشجاعة في مواقع الاقتتال في تقديم ما يمكن للنساء وأطفالهن. يتضمن عملهن إحالة الناجيات الى الدعم الطبي والنفسي بالإضافة إلى خلق أندية مصغرة للأطفال وموائد مفتوحة لإطعام من تبقى في تلك الأحياء شبه المهجورة.
تقول سارة: "على مدار عامي الحرب ساهمت الغرف في توزيع البروتوكولات الدوائية للمغتصبات وتوزيع الفوط الصحية والفيتامينات للحوامل والمرضعات، وإجلاء الناجيات من العنف الجنسي، والدعم المادي والنفسي للضحايا، كما خلقت مساحات آمنة للنساء ومراكز للأطفال".
الحرب بوجهها القبيح، وبرغم بشاعتها الاستثنائية وعبثها بمصائر النساء وأجسادهن، ما زالت قادرة على أن تبرهن على قدرة السودانيات ليس فقط على النجاة والصمود والعبور فوق جسر الصدمة والخراب، بل والقدرة على البناء وإعادة الخلق ومسح سوءات الحرب والصراعات.
النساء في السودان ما زلن يخلقن شبكات للحماية والتعاضد وإسعاف الضحايا. هذا هو حالهن، يحاربن في كل الجبهات ببسالة أملًا في حياة آمنة ومطمئنة وإنهاء تام لكل الحروب التي يديرها الغزاة فوق أجسادهن.
* الاسمان المذكوران مستعاران بناء على رغبة صاحبتهما وحفاظًا على سلامتهما
مقالات شبيهة