يوم المرأة العالمي.. ذكرى للنضال أم فرصة للرأسمالية؟

كتبت: جنان الجندي
في مقالٍ نُشر على موقع الأمم المتحدة في عام 2024، تزامن مع حلول يوم المرأة العالمي في 8 مارس، دُعيت النساء للانضمام إلى حملة بعنوان "الاستثمار في المرأة لتسريع وتيرة التقدم".
أثار هذا المقال تساؤلات لديَّ حول اسم الحملة ومضمونها: متى أصبحت النساء مادة للاستثمار؟ وكيف تحوَّل يوم المرأة العالمي، الذي كان في الأصل تذكيرًا بنضال النساء من أجل حقوقهن، إلى احتفال يُفصل عن سياقه التاريخي؟ متى تم تفكيك النضال إلى أسس هوياتية، وكأن أجسادنا تُستثمر بطريقة مغايرة عن أجساد الرجال ضمن النظام الرأسمالي؟
انطلاقًا من هذه التساؤلات، سأحاول الإضاءة على السياق التاريخي الذي أنتج هذا اليوم، ونقد التحولات التي طرأت على طرق الاحتفاء به سنويًا، وما لها من آثار سلبية على النساء في العالم، إضافة إلى اقتراح البدائل الممكنة من وجهة نظري.
السياق التاريخي
دخلت النساء سوق العمل الصناعي مع نشأة المعامل والمصانع، كنتيجة مباشرة لاحتياج النظام الرأسمالي إلى الأيدي العاملة الرخيصة. ورغم مشاركتهن في الإنتاج، كانت ظروف العمل كارثية: ساعات عمل طويلة، وأجور زهيدة، وغياب الإجازات. في هذا السياق، بدأت الحركات الاحتجاجية التي قادتها النساء لتحسين أوضاع العمل. ففي عام 1908، خرجت أكثر من عشرة آلاف امرأة في نيويورك بمسيرة احتجاجية تطالب بتحسين ظروف العمل، وتقليل ساعات العمل، وزيادة الأجور.
وفي عام 1911، وقع حادث مأساوي في مصنع "تراينغل شيرتويست" في نيويورك، حيث أودى حريق بحياة 146 عاملة. وكان السبب في ذلك إغلاق أبواب المصنع لمنع العاملات من مغادرة مواقعهن خلال ساعات العمل، مما أدى إلى حصارهن أثناء الحريق وعدم مقدرتهن على الخروج وإنقاذ أرواحهن. هذه الكارثة دفعت إلى احتجاجات واسعة، سلطت الضوء على معاناة النساء في بيئة العمل وساهمت في تعزيز مطالبهن بحقوق أفضل في العمل والسلامة.
وخلال الثورة الروسية عام 1917، خرجت النساء في سانت بطرسبرغ بمظاهرات تطالب بـ "الخبز والسلام"، تعبيرًا عن استيائهن من الأوضاع الاقتصادية وظروف العمل المهينة. وكان لهذه المظاهرات أثر كبير في الإطاحة بالقيصر ومنح النساء حقوقًا اجتماعية وسياسية، مثل حق التصويت.
استمرت الاحتجاجات والمطالبات في مختلف أنحاء العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما أسفر في نهاية المطاف عن الاعتراف بيوم 8 مارس كيوم عالمي للمرأة حيث بدأت الأمم المتحدة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة في عام 1975، وفي عام 1977 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء لإعلان 8 مارس يومًا رسميًا لحقوق المرأة والسلام العالمي. تخليدًا للنضال النسائي، والتذكير بالتضحيات التي قدمتها النساء من أجل مستقبل أفضل يتسع للجميع.
وفي عام 1979، اعتمدت الجمعية العامة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي غالبا ما توصف بأنها الشرعة الدولية لحقوق المرأة. وتحدد الاتفاقية، في موادها الثلاثين، كيفية القضاء على التمييز ضد المرأة من خلال وضع برنامج للعمل على مستوى الدول لإنهاء هذا التمييز. وتستهدف الاتفاقية الثقافة والتقاليد بوصفها قوى مؤثرة في تشكيل الأدوار بين الجنسين والعلاقات الأسرية، وهي أول معاهدة لحقوق الإنسان تؤكد على الحقوق الإنجابية للمرأة.
لكن في الحقيقة، وضع النساء عالميًا لم يتغير بعد هذا الإقرار، بالرغم من وصول العديد من النساء إلى أماكن صنع القرار وحصولهن على بعض الامتيازات، إلا أن هذا لم يغير من الوضع المأساوي التي تعيشه معظم النساء في كافة أنحاء العالم عامة وفي دول العالم الجنوبي بشكل خاص وهذا يكشف عن الدور المفرغ لجمعية الأمم المتحدة، حيث يُستغل يوم المرأة العالمي للاحتفالات والأنشطة ذات اللون الوردي، إذ يُنسب هذا اللون إلى النساء والفتيات ويستخدم في أي سياق داعم للمرأة لأغراض إعلامية وترويجية، وهكذا تُفرغ هذه الأنشطة من أي معنى نضالي أو تراكمي يسعى فعليًا إلى تغيير النهج القائم في حياتنا.
في السطور التالية سنوضح نقدنا ليوم المرأة العالمي ورؤيتنا للعمل البديل والذي قد يكون معتمدًا على وسائل الضغط على المنظومة من خلال التضامن والعمل المشترك.
في نقد يوم المرأة
في حين أن الهدف من تخصيص يوم المرأة العالمي هو التذكير بنضالات النساء وقدرتهن على الانخراط في العمل السياسي والاجتماعي لنيل حقوقهن، إلا أن هذا اليوم، من وجهة نظري، يظل قاصرًا عن تسليط الضوء بشكل حقيقي على القضايا المذكورة لعدة أسباب.
أولها، أن واقعنا يوحي بشدة أننا بحاجة إلى عمل وجهد كبيرين للوصول إلى حقوقنا المسلوبة، خصوصًا كنساء الجنوب العالمي، حيث نعاني الأمرّين في جميع مفاصل حياتنا، وبشكل خاص أثناء الحروب. إلا أن أهم ما يمكن الإضاءة عليه في نقد يوم المرأة العالمي هو التفاوت الكبير والفجوة بين "صانعات القرار" والنساء المتأثرات بهذه القرارات. فعلى سبيل المثال، خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزة، صرحت العديد من النساء في مراكز صنع القرار، مثل وزيرة الخارجية الألمانية، بدعمهن الكامل لحرب الإبادة. وفي هذا التفاوت الصارخ صورة واضحة عن الواقع، حيث يُختصر النضال الحالي لحقوق النساء غالبًا في هويتهن الجنسية والجندرية، في حين أن مشاكلنا كنساء ليست مقتصرة على ذلك فقط، بل تمتد إلى تقاطعات طبقات الاستغلال العديدة التي نواجهها يوميًا.
وفي هذا السياق، وكنقطة ثانية في تحليل يوم المرأة العالمي، فإن القضايا التي يتم تداولها في إطار "الاحتفال" أو استذكار النضال النسوي تتجاهل أعمال الرعاية المنزلية كافة من تربية للأطفال لأعمال التنظيف والطبخ والرعاية الصحية والنفسية وغيرها من الأعمال والتي تقوم بها النساء في معظم الحالات، سواء كنَّ عاملات أو غير عاملات، بشكل يومي. هذه الأعمال، التي لولاها لكان النظام الاقتصادي مجبرًا على دفع تكاليف الخدمات المنزلية وخدمات الإطعام والتنظيف، وقد تؤدي في غيابها إلى انهيار النظام الاقتصادي في نهاية المطاف.
وفي حين أن المنظمات النسوية التي تعمل في سياقنا العربي قد تستغل يوم المرأة العالمي وحملات 16 يومًا لمناهضة العنف ضد المرأة لاستجلاب التمويل الغربي، فإن هذا التمويل قد يُؤطِّر العمل النسوي بأنشطة سطحية لا تتناول جذور الصراع وفهمه وتحليله. وبأسوأ الأحوال، قد تقوم هذه المنظمات بحملات إعلانية يكون لها تأثير سلبي مباشر على النساء. على سبيل المثال، قامت منظمة نسوية في لبنان بحملة تشجع النساء السوريات وغير السوريات على التواصل معها في سياق تعرضهن لحوادث عنف، لكنها بدورها تواصلت مع الأجهزة الأمنية وسلمت بيانات اللاجئات وذويهن المُعنَّفين دون إعلامهن. وفي ذلك خرق واضح لمبادئ العمل والنضال النسوي، التي من أساسياتها مبدأ "اللاضرر" والوقوف إلى جانب الناجية بالشكل الذي تطلبه، وليس بالطريقة التي تراها المنظمة مناسبة.
كما أن ليوم المرأة العالمي، كأي يوم احتفالي آخر، طابعًا اقتصاديًا ربحيًا واضحًا. حيث تُصبغ الشاشات ولوحات الأعلانات فجأة باللون الوردي، وينشط السوق لشراء واستهلاك مظاهر الاحتفال، مع إنفاق مبالغ طائلة على الإعلانات التي تتناول هذا اليوم. تُوحي هذه الإعلانات بأن دور النساء قد وصل إلى أفضل حالاته في ظل النظام الحالي، وأنه لا حاجة إلى النظر إلى جذور الصراع، كما تُوحّد بين تجارب جميع النساء حول العالم، متجاهلة الفوارق العميقة بين ظروفهن اليومية.
يأتي هذا ضمن ما يُعرف بـ"الغسيل البنفسجي"، إذ يعتبر الغسيل البنفسجي أداة من أدوات النظام الرأسمالي، والتعبير يشير إلى إستراتيجية تسويقية تعطي بالظاهر شكلًا داعمًا للنساء في حين يُستخدم للتضليل وكمحاولة للتستر على مظاهر القمع والاستغلال الحقيقي للنساء. على سبيل المثال لطالما استخدم النظام الرأسمالي صور النساء المنتسبات للجيش الاسرائيلي على أنهن انتصار نسوي لاسرائيل وترويج على ديمقراطيتها وتكوينها للفئات الأكثر هشاشة، إلا أنها تخفي وراء هذا معاناة ملايين النساء الفلسطينيات بسبب ممارسات جيش الاحتلال.
ما العمل؟
من وجهة نظري، أن أكثر ما يضيرنا هو بنية النظام الرأسمالي وشكله، وأن الإصلاحات في نظام غير عادل ومبني على مبدأ القوة وامتلاك أسلحة الدمار الشامل ليست إلا تخديرًا وانتصارات مؤقتة قد تنقلب علينا في أي لحظة. لذا، لا يمكنني تخيل واقع عادل للنساء في ظل نظام يرضى بحروب الإبادة، ومعتقلات الأنظمة الديكتاتورية، وحكومات النهب، وقوارب الهجرة القاتلة.
حان وقت النضال المشترك القائم على تحليل جذور الصراع، والإشارة المباشرة إلى أعداء الإنسانية باختلاف أجناسهم وألوانهم وأعراقهم. علينا أن نخلق آليات عمل جديدة ترتكز على التضامن كمبدأ أساسي، والتركيز على الشراكة كطريق أولي للنضال الطويل الذي أمامنا. يجب أن نرفض ونقاوم كل محاولات إسكاتنا وتغييبنا عن المشهد السياسي والاجتماعي، مثل يوم المرأة العالمي وغيره من الفعاليات الاحتفالية المنفصلة عن الواقع.
علينا أن نعيد بناء شبكاتنا مع كل النساء القريبات منا، وأن نركز على رواية قصصنا لبعضنا البعض. وألا نكتفي بذلك، بل نطرح بشكل مستمر أسئلة مثل: ما العمل؟ وكيف العمل؟ ومتى نعمل؟ لأن ذلك هو طريقنا الوحيد إلى عالم عادل يتسع لأحلامنا.