#حكايات_تشبهنا: الحكاية الأولى: شمس



2021-01-25

تحتضن مصر الكثير من الحكايات التي تطل علينا من وقت لآخر في صورة خبر، أو قصة، أو حتى منشور على شبكات التواصل الاجتماعي. قصص قد تسمعها في أحاديث الغداء، أو طريق المواصلات أو أثناء الطوابير التي لا تنتهي في المصالح الحكومية وأروقة المؤسسات. بعض الحكايات عابر، لا تذكره ولا يذكرك بشيء... ولكن بعضها يستوقفك؛ تسمع عنه فتتابع التفاصيل، تبحث أكثر عن الشخصيات، تنتفض لأنك جزء منه. تلك الحكايات التي نسمعها فنتأثر ونبتسم، ننكسر ونفخر، نتعجب ونعتبر... كل تلك المشاعر نعيشها لأنها ببساطة حكايات تشبهنا، وإن اختلفت الأسماء والتفاصيل. ومن أفضل من نساء مصر القويات لتكن بطلات تلك الحكايات!

 

 

الحكاية الأولى: شمس

 

 

أشرقت شمس في سيناء، تحديداً في شمال سيناء بعدما قرر والدها الانتقال إليها بعد جلاء الاحتلال في عام ١٩٧٣. كان الحلم تعمير تلك الأرض الغالية التي عادت إلى مصر بعد مرارة احتلال وقهر حرب طويلة. لكن للقدر دائماً حسابات مختلفة… توفي الوالد وشمس في الثالثة من عمرها، وقامت الأم بدور الوالدين حتى تزوجت وشمس في الثانية عشر.

أهلاً، أنا شمس…

كما أخبرتك السطور القليلة السابقة، أمي قامت بتربيتنا حتى تزوجت وأنا في الثانية عشر، أنا الأبنة الكبرى بين أخوتي، وبقيت معهم في المنزل حتى المرحلة الثانوية، بعدها انتقلت إلى العاصمة القاهرة للدراسة في الجامعة وحالياً أنا أعمل بنفس المجال.

حكايتي تبدأ من علاقتي مع أمي، كانت علاقة عظيمة، أم وأخت وصديقة وكُل شيء، لذلك أنا فخورة بوضع اسمها واستخدامه في اسمي الكامل عرفاناً بالجميل والفضل في الكثير من كل نواحي حياتي.

الجامعة كانت مرحلة جديدة في حياتي، طوال عمري كنت شغوفة بالقراءة ومثقفة ومتفوقة في دراستي. كان لي رأي مستقل ومختلف في كل نقاشاتي مع أهلي وكانت تلك نقطة بداية الخلافات بيني وبينهم. بدأت أتعرف على تجارب جديدة في مرحلة الجامعة، كنت أعلم أني سأنفصل من السكن مع أهلي لأنني كبرت وأصبحت لدي استقلالية كافية. رتبت حياتي في القاهرة، وحيدة ولكن سعيدة بأولى خطوات تحقيق أحلامي، وسكنت في سكن مستقل بالقاهرة.

 

أول حادثة هزتني وزعزعتني في حياتي هي التحرش؛ أو تحديداً رد فعل المؤسسة التعليمية التي انتميت إليها بكياني وحلمت بها على كوني ضحية تحرّش جنسي في حرمها، كان عندي هدف الدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكانت أمي تحمسني كثيراً وتبث في الأمل أن أكون من العشرة الأوائل لأدرس في الجامعة. تفوقت جداً في دراستي وقمت بالتقديم في المنحة، كنت قد علمت عنها في أخر يوم للتقديم، وعندما حصلت عليها كانت كالحلم الذي يبتسم لك ويتحول إلى حقيقة.

 

دخلت الجامعة وكانت حياتي هادئة، الهدف هو الدراسة والمعرفة إلى جانب الاستمتاع بالتجارب العملية التي أعيشها يومياً وأشارك فيها. كنت محبوبة من الأساتذة وإيقاع كل شيء منتظم… حتى حدثت حادثة التحرش.

كان هناك برنامج تابع للمنحة له علاقة بتكافؤ الفرص، وكان لديهم قسم كبير مخصص للمرأة والاعتداءات عليها وكانوا ينصحوننا دائماً بأخذ حقوقنا والجرأة وعدم التنازل والخوف في الحوادث والمواقف المتعلقة بقضايا المرأة.

 كنا في احتفال التخرج من الجامعة، ذهبنا للاحتفال، تناولنا القليل من المشروبات الكحولية، وأثناء رجوعنا من الحفل استخدمت الأسانسير مع صديق لي، كان صديقي وأعرفه جيداً، فجأة تهجم علي. دافعت عن نفسي، وقاومته وانتهى الموقف، لكن لم ينتهي الألم النفسي الذي خلفه. فكرت وقررت أن أشتكي وأقوم بالإبلاغ عما حدث، حقي الذي طالما حاضروني أن لا أضيعه. ذهبت وأبلغت وقدمت الشكوى، ثم انصرفت وقال لي العاملون على الشكوى سنتواصل معك.

بعدها كلمتني مشرفة المنحة، وطلبت مني الحضور لمكتبها وسألتني عن تفاصيل ما حدث. قلت لها "فلان تحرش بي، وقدمت شكوى."

 سألتني إن كنت متأكدة من ضرورة دخولي في إجراءات؟

وقالت: "فكري الناس هاتشوف الحادثة إزاي؟ هايقولوا ما هي كانت سكرانة تستاهل اللي حصل لها، لكن هو راجل من حقه يسكر ويعمل اللي هو عايزه"

تعجبت كثيراً وكنت في حالة استنكار، واجهتها: "أنتم بتعلمونا مبدأ تكافؤ الفرص، وإن المسلم زي المسيحي، واللي من الصعيد زي اللي من بحري، وترتبونا لما ناخد صورة جماعية، بحيث نكون ولد وبنت، مسلم ومسيحي. المفروض دي فرصة لكم تعلموا الطلبة إزاي ياخدوا حقهم"، فقالت لي: "احنا بنعلمكم دا عشان تطبقوه في المجتمع لما تكبروا وتتخرجوا".. فقلت لها: "وهنطبقه إزاي في المجتمع الحقيقي لو مش هنطبقه في مجتمعنا الصغير الحالي؟"

أشارت لي أنها تحاول نصيحتي وإن لي حرية القرار في النهاية.

خرجت من مكتبها ليأتيني في الصباح التالي جواب فصل من المنحة! لم أصمت، قررت المقاومة، على عكسهم أنا مؤمنة بضرورة رد الحق لأصحابه.في بحث عشوائي تقوم به إدارة الجامعة، تم ضبط مشروبات كحولية لدى المتحرّش، وكان يحتفظ بها في غرفة السكن الجامعي مخالفاً القوانين والقواعد، المنحة تحركت بعد هذا البلاغ وقاموا بفصله، وهذا شفى غليلي بعض الشيء.

جاء ذلك الشخص معتذراً، وساعدني في قضيتي ضد الجامعة. قدمت شكاوى ضد ظلمهم في كل مكان، الجامعة في أمريكا، والقاهرة، وحولتها لقضية الجميع.

استجابوا في الجامعة بعد ذلك وقاموا بعمل لجنة تبحث رجوعي من عدمه، وقمت بعمل تظلم، ونجحت الحمدلله ورجعت للجامعة، حلمي، لكن الرجوع كان أشبه بالكابوس، جلسات علاج نفسي، أدوية للاكتئاب وشعور بالقهر والظلم وعدم القدرة على متابعة دراستي ومواصلة تفوقي بمستواي السابق. بالتأكيد المنحة كانت تضعني تحت المجهر، وفور تدهور مستواي الدراسي على الرغم من أني كنت أقدم أفضل ما لدي في تلك الظروف قاموا بفصلي وإلغاء المنحة بحجة أن مستواي أقل من السابق.

تركت الجامعة، وانهارت أمي ولكنها كما عودتني ظلت بجانبي، قالت لي "حرام عليكِ تضيّعي حياتك." لكن القرار كان لي، درست وأكملت  مذاكرة وتعلم مع أصدقائي عن طريق التعليم الذاتي وعلمت نفسي بنفسي.

 

بدأت أعمل وعشت في شقة إيجار، وبدأت أمي تقلق وتتكلم عن الزواج، وقالت إن لم أكمل تعليمي الجامعي فسوف تتبرأ مني ولن تتحدث معي، التحقت بالتعليم المفتوح بناء على رغبتها، لكن سكني في القاهرة كان يؤرقها، وأنا بدوري أصررت على موقفي بالاستقلال وعدم العودة إلى منزلنا، فتقاطعنا وتوقفنا عن الحديث لمدة ٧ أشهر. كنت أعمل بأجر ١٠٠٠ جنيه في الشهر، لم يكن يكفي شيء وكانت الحياة صعبة، تكلمت مع أمي مرة أخرى واستعطفتها وبدأت أشرح لها خططي وأقنعها بها.

 

ثورة ٢٥ يناير كانت مرحلة انتقالية. قابلت إعلاميين في قناة شهيرة، وحصلت على فرصة عمل بها، كانت خطوة مهمة جداً، للمرة الأولى أنا على التليفزيون وأعمل في المجال وكانت أمي فخورة بي جداً.

كنت "ثورجية"، وجزء من الثورة إني أصورها، كنت دائماً في مناطق الاشتباك وكانوا يطلقون علي "مصورة الحروب"، أي هجوم أمني كنت أنا الوحيدة التي تحمل الكاميرا وتذهب لتغطية الحدث من القناة. دوامة العمل وإخلاصي به أخذتني من أمي وجاء المرض ليأخذها مني. مرضت جداً وكانت في نزاعها الأخير، حينما أتى الخبر، هرولت لأراها ولكني وصلت متأخرة.

الحياة ضاقت بعدها، أتذكر أني ذهبت لدفنها وعندما رجعت كانت الجمعة الشهيرة بـ "جمعة قندهار" والسلفيين كانوا في الشارع.

 

قبيل ذلك، كانت أختي الأصغر تدرس في جامعة حكومية في القاهرة، وتعيش في سكن الطلاب، طبعاً كان الوضع بشعاً، عندما استأجرت بيت بمفردي طلبت منها القدوم للحياة معي لنساعد بعضنا ونكن دوماً سنداً.  وبدأت أختي تتشجع وتعمل وتساعدني في دفع الإيجار.

بعدها جاءت لأختي فرصة عمل في الإمارات، العرض لم يكن مغرياً لكنه كان أفضل من عملها بالقاهرة، وفي نفس التوقيت حدثت لي الحادثة الشهيرة في محمد محمود.

وقتها كنت أسكن في شارع محمد محمود شخصياً، واعتدنا كثيراً على الرصاص المتطاير علينا طوال الوقت ولكننا كنا نكافح ولدينا حماس لنعود ونكمّل، بخلاف الكاميرا الثابتة التي لا تتوقف عن العمل، كان فريق كامل مقيم في منزلي لتغطية الأحداث. في يوم الهدنة بين المتظاهرين والأمن كانوا يقيمون سوراً وقررت النزول لتصويره وإجراء بعض المقابلات في الشارع. كان هناك تحذيرات من وجود بلطجية في الشارع وكنت متابعة مع شبكة الصحفيين الموجودين في الموقع، حتى أعلنوا آن الأطباء تدخلوا وأن البلطجية انسحبوا. نزلت أنا وأختي، تقدمت وحدي ناحية السور وكان بيني وبين البلطجية سلك شائك وعبرت السلك لتصوير الموقع، فريسة سهلة طبعاً وخلفي سور يعيق حركتي، تجمع حولي أكثر من شخص، وارتعبت أختي وهجمت عليا عندما رأتني أصرخ وحاصرونا أنا وأختي بالسلك الشائك ليبدأ تحرش جماعي مهين ومستفز. أمسكت بها، حاولت التعلق بيدها حتى لا نفترق ولكنها كانت تبتعد عني حتى أصبحت متمسكة فقط بالجاكيت، وتتابعت الأحداث من بداية السور حتى وصلنا بداية التحرير، المستشفى الميداني خلف هارديز، أحياناً كنت أقع أرضاً مختنقة بملابسي وقاموا بالتحرش وضربي في كل مناطق جسدي والمنطقة الحساسة، وجروح وكدمات، وكل ما كنت أفكر به لا يمكن أن أفلت أختي.  ظللت ممسكة بالجاكيت حتى أفلتت مني عند المستشفى الميداني، بدأت أشعر بالأمان حين وصلنا لها، في تلك اللحظة كنت أوشكت على مفارقة الوعي ولكني كنت أتشبث أكثر بضرورة الوصول لمكان آمن في البداية وكنت أحاول توعية نفسي أكثر من مرة.

 

عندما رأيت نفسي محاطة بالأطباء فقدت الوعي، وعندما أفقت أنا وأختي كان لدينا حالة من الهستيريا. حاولت الهدوء والتماسك من أجل أختي، الموضوع كان بشعاً بالنسبة لها، كانت تسب وتلعن كل شيء.

 

شاركت أختي معي لأنها كانت قلقة عليّ في هذا اليوم، لم يكن لها في السياسة أو في التظاهر، حينما كنا نذهب للتظاهر كانت تذهب لأصدقائها لتكن بعيدة عن الأحداث، وقتها قررت أختي الموافقة على عرض العمل في الإمارات، والرحيل عن البلد والمعيشة في مكان أحسن ، بعد شهرين أو ثلاثة حدثت لها حادثة بشعة، وجائتني مكالمة بأنها كانت في حادثة كبيرة وإنها ستجري عملية في العمود الفقري وهناك احتمالية بحدوث حالة من الشلل وعدم القدرة على الحركة مرة أخرى. طلبوا مني جواز السفر والأوراق لتحضير الفيزا، ذهبت لشركة سياحة لتقديم الأوراق وإنهاء الإجراءات والأوراق لتجهيز الفيزا في أقرب وقت، كانت هناك مشكلة ولي الأمر، ولكنهم وافقوا ومنحوني الفيزا في النهاية. بداية وصولي للإمارات، ذهبت على العناية المركزة، ورأيت أختي مشوهة، ولكني كنت أرى أمي فيها، كانت تشبهها، لم أكن لأتحمل فقدانها، ظلت أختي شهر في الغيبوبة.

 

بقيت معها طوال الشهر، وأموالي قاربت على النفاذ، قررت العودة للقاهرة لترتيب أمور العمل، لكني فوجئت باتصال يخبرني بأن أختي ماتت. انهرت، ولكن جاءت مكالمة أخرى، "أختك عايشه!" كانت صدمة، ما هذا المزاح، أيصل العبث لهذه الدرجة؟ فأخبروني بأن أختي حدثت لها معجزة، توقف قلبها ١٤ دقيقة، ولكنهم أبقوها على الأجهزة، والآن وضعوها على جهاز التنفس.  

 

هي أفاقت على صدمة ما حدث، مأساة. هل نعود لمصر، أو نبقى في أبوظبي، أرادت البقاء في أبوظبي لاستيعاب ما حدث. وقتها استسلمت، لم يكن معي أموال، ولم يكن لدي مشكلة أن أطلب المساعدة، قمت بالإعلان عن حالة أختي وأنها تحتاج المساعدة. وبدأت الناس تساعد بالنقود، وبدأت بالقضية بسبب الحادثة، تواصلت مع سيدة كان ابنها ضحية حادثة مشابهة لحادثة أختي، وفعلا تكلمت معها، وقالت لي عليكي محاولة إعادة التأهيل.

 

بدأت رحلة البحث عن رحلة التأهيل، في ألمانيا وأوروبا، حتى وجدت مستشفى أسعارها جيدة ومناسبة، وهبوا لنا أمل أن ترجع العملية الحياة لأختي وتعود للحركة.

 

اعتمدت على نفسي، واعتنيت بها. ذهبنا لألمانيا، كانت أختي في حالة سيئة للغاية، وأخبروني أنه لا يوجد أمل لرجوع الحركة والمشي بشكل طبيعي. 

 

رجعنا لمصر أخر ٢٠١٢، قمت بتغيير السكن واستأجرت شقة لطيفة. عدلت الكثير ليناسب المنزل أختي وتتأقلم معه بسهولة، حاولت أختي العمل لكن الأمر كان صعباً، المصاريف كثيرة ودائما ما ينظر لها على أنها "ظاهرة" فقررت أختي البقاء في المنزل في الوقت الحالي، وتحاول الحصول على فرصة للدراسة خارج مصر.

 

أنا اليوم في مكان جيد ومستقر، من 2014 أعمل في المجال الذي حلمت به طوال الوقت، وصنعت العديد من الإنجازات محلياً وعالمياً، مادياً مستقرة أكثر وسافرت حول العالم وأجرب كُل ما أتمناه.

 

الحب موجود طول الوقت في قصتي، ارتبطت عاطفيا أكثر من مرة، منها ما انتهى نهاية درامية أدت إلى قطيعة ومنها ما انتهى بصداقة حقيقية أكثر استقراراً وصحيةً من العلاقة العاطفية نفسها

الآن، أنا شمس، مشرقة وسعيدة مع الشخص المناسب "الصح"، استمتع بالهدوء والرضا بعد تجارب مهمة كثيرة مررت بها، صاغت شخصيتي وعلّمتني.

"متيأسوش" الكلمة التي أحب أن أوجهها لكل السيدات، في مصر والعالم. لقد خلقنا للمواجهة، مواجهة الأهل وما فرض علينا من العادات والتقاليد المهترئة البالية… حتى القوانين، نحن من سنعيد صياغتها وتطويرها. المرأة هي الأقوى، أمهاتنا أكبر وأفضل مثال على ذلك… المرأة هي أساس المجتمع، لا يمكن أن نفكر في حياة حقيقية بدونها.