#حكايات_تشبهنا: الحكاية السادسة: لبنى



2021-03-08

الحكاية السادسة: لبنى

 

 

الأسرة تلعب دوراً جوهرياً في بناء علاقاتنا بمن حولنا… علاقتنا بأفراد أسرتنا، أخوة وأخوات وكيفية ترابط الأفراد ببعضهم يشكل الخطوة الأولى في علاقاتنا الانسانية، فتخيل لو كانت تلك العلاقات سطحية مهمشة مبنية على الانتفاع وخالية من الحب والمسؤولية تجاه الآخر!

 

اسمي لبنى، أنا وأخواتي ثلاثة، من مصر، أحدهم نشأ معي في نفس المنزل. رأى الذل الذي كنت أعيش به ولكنه لم يحرك ساكناً. تركت مصر وعمري ١٩ عاماً ولم يسأل عني. بعثت له رسالة "إزاي أنت في عمرك ما سألت عليا؟"، ألسنا في مجتمع ذكوري تحكمه تقاليد وأعراف أن الأخ مسؤول عن شقيقته! كيف لا يسأل عني طوال هذه الفترة؟  ولكنه لم يكترث حتى بالرد على رسالتي.

أخي الثاني يتذكرني من وقت للأخر لأساعده مادياً، يتصل لطلب المال فقط. أنا وأشقائي ثلاث، ولكن هؤلاء من أعلم عنهم... لي أشقاء من أبي وأمي لا أعرفهم.  لدي أخوة من أبي أعرف منهم اثنين، أخ منهم صغير قريب من سن ابنتي. أعلم أن هناك أخوة أخرين ولكني لا أعلم عنهم شيئاً.

نقطة التحول في حياتي كانت طلاق أبي وأمي، انفصلوا وأنا عمري سنة واحدة، لم أرهم أبداً كزوجين. أمي كانت حامل بأخي الصغير في ذلك الوقت. كان الانفصال نقطة التحول وكنا وقتها في ليبيا وأنا الوحيدة التي ولدت بمصر، كل أشقائي ولدوا في طرابلس. أمي اكتشفت بشكل ما أن أبي كان في علاقة ثانية ومتزوج وهي أيضاً حامل. لدي شقيقين ولدوا في نفس الشهر والسنة الفرق بينهم يومين. أعتقد أن أمي لم تتخطى ألم وصدمة هذه الأزمة أبداً. استمرت أمي في عملها بليبيا، أما أبي فرحل ولم أعرف عنه شيئاً إلا بعد أن أصبح عمري ١٣ عام. بشكل عام الحياة كانت صعبة.

 

أمي كانت طبيبة وعملت في طرابلس لفترة طويلة، ولكن المشكلة أن الأسرة تفرقت؛ أخي الكبير ذهب لمدرسة داخلية في مالطا، وأخي الصغير ارسلته أمي لمصر ليعيش مع جدتي في الإسكندرية، أما أنا فبقيت معها ٩ سنوات في طرابلس. طوال الوقت كان لدي هاجس أن تتركني أمي وترحل، كان الشعور الملازم لي طوال طفولتي الخوف من الهجر. كانت الدراسة الملاذ الآمن بعيد عن المشاكل، كنت أحب الدراسة ومتفوقة جداً فيها، كنت أكره الإجازات لأني أفتقد المدرسة. ربما لدي ذكريات عن تلك الفترة لكني لا اتذكرها بوضوح، أحياناً يعود لي بعضها، ولكن بلا مشاعر، مجرد مواقف عاصرتها.

 

قررت أمي السفر إلى مصر، جاءت خالتي وأخذتني إلى المطار، وتخيلت أن أمي تركتني، ولكني وجدتها في المطار وسافرت معي. ذهبنا لجدتي، وكانت علاقتي بها متوترة، وبعد ثلاثة أيام رحلت أمي. تركتني فعلاً هذه المرة، كانت في المطار فقط لإيصالي لمصر. كنت في صدمة كبيرة فقد تحققت مخاوفي، ولم يكترث أحد ولم يعاملني أحد برأفة على حالي. لم تكن علاقتي قوية بأخي، لم أكن أعرفه حقاً. دخلت المدرسة في مصر واستمرت الحياة مع معاملة قاسية من جدتي، لم تكن تعنفني جسدياً ولكنها كانت تعنفني نفسياً، كلامها كان قاسياً جارحاً ومعاملتها حادة معي. الغريب أنها كانت حنونة مع أخي، كانت لطيفة معه ومع أبنة خالتي، ولكن قاسية معي. عندما حاولت أن ألتمس لها عذراً بأن شخصيتها كانت قاسية، ولكن أبنة خالتي قالت لي أنها كانت تعامل الجميع بلطف إلا أنا.

ثم أتت الدراسة، وكانت طوق النجاة بشكل عام. كنت أنتظر أن تعود أمي، ولكنها كانت تعود مرة في السنة خلال إجازة الصيف. كانت سنين طويلة قاسية، عندما اكتشفت أنها كانت ستة سنوات فقط تعجبت كيف عشتهم ستين سنة بسبب القهر.  

أعتقد مأساة حياتي أن أمي كانت شخص لطيف جداً، وكانت تحبني، لم أشك يوماً في ذلك. ولكنني أعتقد أنها لم تكن تعرف كيف تحبني. كانت متأثرة بالطلاق وتجاربها الصعبة، وعلاقتها المتوترة مع أخي الكبير. كانت تضحى بكل شيء من أجل أخي الكبير وكان هناك فرق واضح في المعاملة. كانت يجب أن تعمل بالخارج لتوفر مصاريف مدرسة أخي بالجنيه الإسترليني في حين كنت أنا في مدارس حكومية. ربما كانت تحاول أن تثبت لأبي أن أخي سيظل في نفس المستوى بعد تركه لها، سيبقى في المدارس الأجنبية نفسها، ولكن أبي لم يكن مهتم بنا من الأساس. ربما أخذت أمي ذلك كتحدي، وضحت وبذلت في سبيل ذلك التحدي الكثير.

حبي للتاريخ بدأ من سن الثامنة، عندما قرأت عن الحضارة الفينيقية، كنت أهوى تعلم اللغات ولكن في ليبيا لم يكن ذلك متاحاً. ولكننا سافرنا كثيراً وفي مصر ندرس اللغة الإنجليزية من المرحلة الإعدادية.

من ناحية أخرى بيت جدتي لم يكن مريح أبداً. لم أصفه يوماً ببيتي، لم يكن لدي بيت، لم يكن مكان آمن بالنسبة لي. بيتي كان الكتب، وكنت أكره أن يلمس كتبي أحد غيري. كانت جدتي تعتدي علي لفظياً طوال الوقت وبدون أي سبب، عندما كنت أذاكر كانت تقول لي " أنت فاكرة المذاكرة دي هتنفعك كده." كنت صغيرة جداً وكنت أقف في المطبخ من أجل التنظيف والطبخ لترضى عني، كنت أفعل أي شيء لكي أكسب معاملتها الحسنة.  

ارهقت نفسياً كثيراً، ولكن لم تكن لدي رفاهية الانهيار وعدم التفوق في تحصيلي الدراسي. لم تكن ٩ من ١٠ درجة كافية، لم أكن رحيمة على نفسي وكنت أقسو عليها كثيراً.

جاء عمي لزيارتنا مرة، وكان لطيفاً معي ورتب هو وعمتي لقاء لي مع أبي حتى أتعرف عليه، ولكنه صدمني. أقل ما يمكنني قوله أنه آية في القسوة، كيف يمكن لشخص أن يصبح بهذه القسوة!

بعد سنتين قابلته مرة ثانية، وكنت يائسة من الحياة مع جدتي وكنت أحاول الرحيل عنها بأي شكل من الأشكال.

كان أبي متزوج من سيدة لطيفة، رقيقة، مازلت على تواصل معها للآن، وكان لديها ولد وبنت من نفس عمري. اقترحت عليا قضاء الصيف معهم في القاهرة. كانت المرة الأولى التي يعاملني أحدهم بلطف، يقولون أن زوجة الأب قاسية، ولكن هذه السيدة غيرت نظرتي تماماً للموضوع. ثم عدت لجدتي عندما انتهى الصيف، وازدادت معاملتها قسوة.

نجحت تلك السنة على الرغم من قسوة الظروف، ودخلت مدرسة متفوقات، عندما قالت لي أمي أنها سعيدة أني قهرت الظروف ونجحت بالرغم عنها، كان ردي "علشان لما أمشي من هنا محدش يكون له عندي حاجة.." ربما كان الأمر كله ترتيباً مني لكي أهرب من كل هذا. 

كل الأماكن التي عشت بها في مصر كانت غير آمنة نفسيا وغير آمنة جنسياً وجسدياً. أتذكر الآن بعض المواقف التي كنت تناسيتها، الانتهاكات الجنسية في مصر لها أشكال نظامية في الحياة.

لقد تم الاعتداء عليا جنسيا أول مرة وأنا عندي ثلاث سنوات، لم أتذكر هذا الموقف إلا في ٢٠٠٤، كنت كبيرة عند ذلك ولدي طفلة. ابن خالتي اعتدى عليا جنسياً في سن السادسة، وأخي الأكبر اعتدى عليا في سن الثامنة والتاسعة.  عندما ذهبت لمصر، كان زوج خالتي يعتدي عليا، وعندما عشت مع والدي كان يقوم بذلك أيضاً.

 

كانت زوجة أبي تسأل عني وترسل لي بطاقات تهنئة في عيد ميلادي… سألتها إن كان يمكنني أن أعيش معهم وأدرس بالقاهرة فوافقت، وهو رفض، ولكنها وضعته أمام الأمر الواقع. كان عندي ١٦ سنة، كنت أذهب للمدرسة والمعاملة حسنة في المنزل إلا من أبي، كانت ينظر لي بحدة ولكني كنت اعتدت ذلك. . كانت السنة الوحيدة التي شعرت بطفولتي فيها، كانت تبهرني زوجة أبي بلطفها وتشجيعها لي للدراسة والتفوق. كان كل شيئاً جميلاً إلا أن انقلب بين يوم وليلة. انفصل أبي عن تلك السيدة وبقيت أنا مع أبي أعاني من الانتهاكات الجنسية والمعاملة السيئة.

كان أبي يعنفني جسدياً بسبب وبدون، حتى أنه كسر لي أصابعي ذات مرة وهو ينتهكني جنسياً، وأنا لم أكن أفهم حتى أن ذلك انتهاك.

بالرغم من كل ذلك نجحت في الثانوية العامة ودخلت كلية الهندسة، وبقى حال أبي على نفس الحالة حتى تزوج سيدة لطيفة جداً جداً. كان يعاملني بقسوة أمامها، وأحياناً يضربني. مرضت جسدياً وذهبت للطبيب مع زوجة أبي وقال لها أن حالتي النفسية سيئة جداً ويحتمل أن أموت من الضغط النفسي.

سافر أبي وزوجته ذات مرة وأعطوا للمساعدة المنزلية إجازة وبقيت وحيدة بعد أن أغلقوا عليا الباب. كانت المساعدة تشفق عليا وتحضر لي الطعام، وكدت أن اتغيب عن امتحاناتي وكان ذلك كابوساً بالنسبة لي. عاد أبي قبيل الإمتحانات بقليل واستطعت حضورها، ولكن إحساسي أنه كان يرتب لطردي من المنزل. أرسلني لأحضر كيكة عيد ميلاده وكان الجو صيفاً حاراً فساحت الزينة عليها، فضربني وخبط رأسي بالحائط وطردني من البيت. كنت أشعر بذلك فجهزت شنطة بها أوراقي الهامة ومبلغ ١٠ جنيهات. ذهبت لصديقة لمساعدتي وأوصلني والدها لمحطة الأتوبيس حتى أعود لجدتي في الإسكندرية. جدتي كانت سعيدة ليس لأنها اشتاقت لي ولكن لأنها ستثبت أني مخطئة.

أخبرت أمي أني سأعود لجامعتي في القاهرة وكل ما أريد هو مصاريف المدينة الجامعية وسأبحث عن عمل في القاهرة. لم تضغط علي أمي كانت تعرف أني في أفضل جامعة في مصر.

رجعت القاهرة ودخلت المدينة الجامعية بالجيزة، وأحد أصدقائي وجد لي عمل في دار نشر باللغة العربية. عملت ودرست وتعرفت على أشخاص من ثقافات وخلفيات مختلفة وكونت صداقات. لقد تطورت شخصيتي وتطورت كإنسانة على أكثر من صعيد.

 

الآن أنا في كندا، وعدت للدراسات العليا منذ عدة سنوات، وحصلت على درجة الدكتوراه وتخصصت في الأدب الفرنسي، أنا الآن أركز على عملي وابنتي ... تركت الهندسة عن طيب خاطر لأعمل بالترجمة التي أحببتها ورغبت في العمل بها.

الغريب واللطيف أنا في ثانوية عامة كان لدي أستاذ لغة عربية يقول لي " أنت شاطرة بالعلوم والرياضيات بس أنت ميولك أدبية."

الآن أنا أعمل على مواجهة حالات الغضب والتعافي من ذكريات الماضي وآثاره. بعد موت أمي هناك شيئاً كسر بداخلي خصوصاً أنها اعترفت لي أنها كانت مخطئة في اختياراتها. كان بإمكانها أن تعدل من أشياء كثيرة ولكن اختياراتها سببت كل مشاكل حياتي. الغضب بداخلي من الطفلة التي لم يكن لها ذنب في شيء. عودتي في إجازة لمصر أثر فيا جداً. 

زرت السيدة زوجة والدي، وتذكرت أن والدي طردني من هذا المنزل، سألتها لماذا فعل هذا؟ لأكتشف أنه طردني لأنه خاف من مسؤولية تجهيزي للزواج بحكم أني ابنته.

 

قدري أني سأتعافى، وأرى ذلك لأنني لم اتعافى منذ طفولتي ولا حتى سعيت له. اليوم، أتطلع لقصتي، سأحكي التفاصيل لابنتي يوماً، وأنظر لنفسي معها، كم كنت قوية. ستفخر بي كوني تغلبت على كل ذلك ووهبت لنفسي السلام الذي يقاتل من أجله الجميع.

 

يقولون إنك ستتعافى تماماً حين تخبر قصتك بدون ألم، تتذكر كيف جعلتك قوياً وكيف تغلبت على كل عقباتها. أنا مازلت في طريقي للتعافي وأنا واثقة أن قصتي ستخبر الجميع أن التعافي يأخذ وقتاً، ولكن مع الإرادة وقوتك النابعة من إيمانك بنفسك وقدراتك ستصلين إلى تلك المحطة، حيث تروى كل القصص للتعلّم ولاستقاء الدروس المستفادة بدون دمعة أو غصة.