كيف كرهت جسدي وكيف تصالحت معه؟

بقلم : مريم فرحات



2022-02-03

كنت أطالع الفيس بوك حين صادفني مقطع من لقاء أجرته ريا أبي راشد الإعلامية العربية المشهورة والذي كان صادماً لي على عدة نواح. كانت ريا تتحدث عن طفولتها وكيف أنها كانت طفلة زائدة الوزن بعض الشيء وكيف كانت عائلتها وكل من حولها دائمين التعليق على هذا الأمر في مختلف مراحل عمرها مما أُثر على ثقتها بنفسها ورؤيتها لجسدها لأعوام طويلة حتى استطاعت التغلب عليه بقبول ذاتها وممارستها لنمط غذائي صحي.

 

تفاجأت أن هذه المرأة التي أراها رائعة وناجحة وجميلة تحمل بداخلها نفس الألم الذي نحمله جميعاً أو معظمنا تجاه أجسامنا وما قرره الأخرين تجاهه وأثر علينا في جميع مراحل عمرنا مهما بلغنا من نجاحات أو كنا واثقين في أنفسنا في نواح عديدة. أكثر ما ألمني في هذا المقطع حينما قالت ريا إنها "إذا وجدت نفسها في يوم من الأيام تعلق على وزن أو جسد طفلتها تكون فشلت كأم." إذن فهي تعلم ونعلم كلنا أن للآباء والأمهات دور كبير في تقبلنا لنفسنا ورؤيتنا لجمالنا. لماذا لم تدرك أمي وأقاربي إذن ذلك منذ طفولتي وحتى الآن؟

 

كان التنمر على شكل الجسد والمواصفات الشكلية أمرأً معتاداً في عائلتنا وكنا نمارسه نحن أيضاً كصغار تجاه بعضنا البعض أسوة بالكبار، وأيضاً لأن كلاً منا يتم التنمر عليه في أمر ما فيقوم بالتالي بتوجيه مشاعره الغاضبة تجاه عدم قبوله تجاه الأخرين.

 

فأخي كان "صاحب البطن الكبير أو الكرش"، والأدهى أن هذه الصيغة من التنمر هي ما استطعنا الوصول إليه كنوع مقبول من السخرية من المظهر بعدما عاقبنا والدي أكثر من مرة على نعته "بأبو أربع عيون" لارتدائه النظارة! لاعتقادهم بأن هذا الأمر سيؤثر على نفسيته ولكن نعته بصاحب الكرش من وجهة نظرهم ليس له نفس التأثير! أما أختي فكانت صاحبة الأنف الكبير وكانت أمي تتضاحك مع خالتي بشأن هذا الأمر وكيف أن جيناتها لم تنجح في تحسين مظهر أنف أختي والتي ورثته من عماتي وكيف أنها تشبه عماتي في كل شيء حتى في قدميها، الأمر الذي كان يحيرني لأن طالما ما أعجبتني قدمي أختي وعماتي وكنت أتعجب لماذا لا تقوم أمي بالإطراء على هذا الأمر مثلما تذكر أنف عمتي.

 

وبالطبع كانت هناك فترة التنمر على أولاد خالتي لشعرهم المجعد ومؤخراتهم الكبيرة مثل جدتهم. بالطبع أمي وخالتي وجدتي لأمي كانت مواصفات الفتاة المثالية بالنسبة لهن أن تكون طويلة وشعرها ناعم وبيضاء وعيناها واسعة وفاتحة ويا حبذا لو ملونة مثل جدتي. الغريب أن هذه المواصفات توزعت علينا بالتساوي، فمع الشعر المجعد لأولاد خالتي كانت لهم العيون الزرقاء والخضراء والبشرة البيضاء. أما نحن فكانت بشرتنا أغمق قليلاً وزادها ذهابنا للبحر بشكل مستمر، ولكننا تميزنا بالطول والشعر الناعم عدا أختي كانت قصيرة بعض الشيء، فازدادت لديها القائمة لتصبح الأنف الكبيرة والقصر وأرداف عماتي.

 

لأعوام طويلة ظلت العلاقة بيني وبين جسدي علاقة غامضة ومخيفة ومشينة في بعض الأحيان. حاولت تدليله والاهتمام به، فقد كنت أتعمد تجاهل أي أسئلة تتعلق بجسدي أو حتى في اختيار ما يلائمه من ملابس أو فهم طبيعته وشكله. أعتقد أن هذه الحالة من الاضطراب والتجاهل هي استمرار لتعامل أمي مع جسدي عند بلوغي. ففي أعوامي العشرة الأولى لم أواجه أي مشاكل خاصة بجسدي ولم أشعر بموجات التنمر في العائلة ولكن بالتأكيد تعرضت لكراهية بنات خالتي عندما كن يقارن شعرهن المجعد بشعري "الحريري الناعم"، كما كن تصفنه، والذي ورثته بالطبع من أمي فكنت دائماً مجال للمقارنة لأني أمتلك أفضل شعر بالعائلة بشهادة "آلهة العائلة."

 

لذلك كان الهروب الأمثل بالنسبة لي في صغري هو اللعب مع أبناء خالتي من الذكور، فأختي التي بلغت سن المراهقة هي وابنة خالتي لم تعدا تريدان طفلة بجوارهما على عكس أبناء خالتي الذكور الذين رحبوا بانضمامي لهم. ولكن المأساة بدأت عندما جاءتني الدورة الشهرية وبدأت معالم جسدي تتغير فتم منعي من اللعب مع أبناء خالتي الذكور ولم تسمح لي أيضاً بنت خالتي وأختي بالانضمام إليهن وهن اللاتي أصبحن على مشارف الجامعة.

 

كان تعامل أمي مع جسدي غير مبرر، فقد كان هناك إصرار غريب على الذهاب إلى محلات اللبس الرجالي وشراء البناطيل الجينز من هناك مع أخي، كنت أذوب داخل نفسي ويتملكني الخجل عند الدخول إلى تلك المحلات المكتظة بالأولاد لشراء البناطيل لي. وكان دائماً تفسير أمي لهذا الأمر أن جسمي لا يناسبه البناطيل البناتي وأن حجم وسطي وأردافي غير متناسق ولست مؤهلة بعد لارتداء البناطيل النسائية لغرابة تركيب جسمي.

 

وبالطبع عند الحاجة لبناطيل من القماش كان الخياط هو الحل الأمثل لي ولأختي لتفصيل البناطيل وكانت أمي دائما تحدث الخياط بصوت مرتفع حول كيف أن جسمنا لا يلائمه القصات المتوافرة بالمحلات لأن مؤخرتنا وأردافنا كبيرة، وقد يمتد بها الأمر في بعض الأحيان لإعطائي بعض الضربات الخفيفة على أردافي مع تبادل الضحكات مع من حولها من النسوة.

 

وعلى الرغم من تفوقي الدراسي المعروف فقد كانت أي محاولة من لحل شعري أثناء الذهاب إلى المدرسة أو تنظيف حواجبي تلاحقها السباب والشتيمة واللكمات العنيفة من أمي لاعتقادها بأني أًصبحت بنت غير مهذبة، وأني إذا بدأت في الاهتمام بشعري وحواجبي سأبدأ طريق الفشل وسأرسب في دراساتي ولن أذق النجاح طوال حياتي.

 

توفي الخياط عند بلوغي السابعة عشر وتوقفت مع وفاته عن ارتداء أي بناطيل قماشية بل أن هذا القسم في المحلات كان المحرمات بالنسبة لي حتى بعد دخولي الجامعة وترددي على المحلات النسائية إلا أن ظلت هذه البنطلونات من المستحيلات أن أرتديها أو أجربها.

 

منذ بداية تخرجي من الجامعة وانتقالي لمحافظة أخرى بدأت بالتعرف على جسمي بشكل أكثر ساعدني في الأمر بعض أصدقائي الذكور والتي كانت في بعض الأحيان مجرد محاولات لإقامة علاقات جنسية معي. مع اعتقادي الدائم بأن جسمي مشوه وذكوري كانت عبارات الإطراء من أصدقائي الذكور تفاجئني وبالطبع لم يخل الأمر من الاكتشاف الجنسي معهم لأنهم أول من أشاد بهذا الجسم الملفوف كما يدعونه. لم أندم على اكتشافاتي الجنسية ولكن ألمني إني كنت مدفوعة لممارسة العلاقات الجنسية لسماع عبارات الإطراء على جسدي وتفاصيله. واكتشفت بعد أشواط طويلة من الصراع الداخلي والعلاج النفسي وبداية تقبلي لذاتي وشكلي، أن التجارب الجنسية التي أخوضها وأنا على ثقة بشكلي وجسمي وشخصيتي تختلف اختلافا كلياً عن تلك التي كنت أسعى من خلالها للشعور بالقبول والإعجاب من الطرف الأخر. لذلك لا أتعجب عند سماع أهوال ما تتعرض له الفتيات الآن من ابتزاز ومشاكل لدخولهم في علاقات عاطفية أو جنسية مؤذية لرغبتهن فقط بالشعور بالقبول ممن حولهم بعدما لفظهم من هم أقرب إليهن.

 

أما مفاجأة حياتي كانت في عمر الـ28 وبعد توقف دام 11 عاماً عن ارتداء البناطيل القماشية عندما دخلت أحد المحلات الشائعة حول العالم في إحدى الدول الأوروبية أثناء إتمام منحتي الدراسية وحينها تجرأت وأخذت أحد البناطيل القماشية لتجربتها وكان المفاجأة أن البنطلون ناسبني جداً، حتى إني لم أصدق نفسي حينها وقمت بتجربة كل البناطيل القماشية في هذا المحل ووجدت أن جميعها تناسبني بالطبع بعد اختيار المقاس المناسب. حتى إني في هذا اليوم اشتريت ثلاثة بناطيل قماشية احتفالا بقدرتي على شراء بناطيل قماشية تلك التي أمنت لأعوام بأنها لا تناسبني. واحتفالاً بعلاقتي بجسدي الذي تحمل معي النقد الدائم والتجاهل والتي صرت أحبه بكيلوجراماته الزائدة هنا أو هناك وترهله عند تناولي الكثير من الطعام أو أثناء نشاطي وممارستي للرياضة وتناولي غذاء متوازن.

 

لم تكن رحلة التصالح مع جسدي بالسهلة ولم تكتمل بين يوم وليلة وإنما استغرقت سنوات طويلة حتى تمكنت من تقبل كل جزء في جسدي. ربما قطعت شوطاً فيها مع كل صديق أو صديقة أحبوني وقدموا لي الدعم وأثنوا على هيئتي واختياري لملابسي في أكثر أيام تعبي وإرهاقي، وتعاهدنا سوياً على رفض التنمر وإطلاق الأحكام على الآخرين لتخطي آلام الطفولة. ربما ساعدني أيضاً أنني استطعت الانفصال عاطفياً عن عائلتي بالتدريج بعد الانتقال لمحافظة أخرى، وكذلك مجال عملي الذي تضمن تقديم الدعم النفسي للفئات المهمشة في المجتمع ونمى وعيي تجاه التأثير السلبي لإطلاق الأحكام المجتمعية على الآخرين وكيف يمكن للتنمر أن يدمر حياة الأشخاص ويعرضهم للاكتئاب والعزلة.

 

أخيراً، مع نجاحي في عملي وتفوقي الدراسي تأكدت من خطأ ما كانت تؤكده لي أمي دوماً حول كون الاهتمام بالمظهر أو بجسمي سيكون السبب لفشلي، وفهمت أن هذا الاهتمام هو أحد مظاهر حب الجسد والرغبة في تدليله والاهتمام به. لم أعد أتقبل أن يوجه أحد اللوم أو النقد لجسدي أو شكلي بل صارت اختياراتي لجسدي تعتمد على حبي له ورغبتي في أن يكون صحي وسليم حتى وإن لم أواظب على هذا الأمر في الكثير من الأوقات ولكنه مازال جسدي ومازالت هذه علاقتي الشخصية الخاصة معه.