القتل بحجة الحب.. ذروة تطبيع العنف ضد المرأة

بقلم : ميرهان فؤاد



2022-11-28

شهدت مصر في يونيو الماضي حادثًا صادمًا، فتاة عشرينية تدعى نيرة أشرف تتعرض للذبح أمام جامعتها، على مرأى الجميع.

 

اعترف قاتل نيرة في التحقيقات أنه أقدم على قتلها بعد رفضها الارتباط به. كان من الصادم أيضًا أن العديد من مستخدمي المواقع الاجتماعي حاولوا تبرير فعلة القاتل، سواء بادعاء "سوء سلوك" الضحية، أو تعليقًا على ملابسها التي رأوا أنها لا تتماشى مع قيم الأسرة المصرية، أي أنها لم تكن ضحية مثالية بما يكفي في نظر المجتمع.

 

لم يستوعب المصريون حادث نيرة حتى أفاقوا على حادث مماثل، إذ فقدت سلمى بهجت حياتها طعنًا بالسكين أمام بيتها، على يد شاب أقر أيضًا في التحقيقات أنه تقدم لخطبتها لكنه رُفض.

 

وفي الأردن وبعد فترة وجيزة من مقتل نيرة تعرضت فتاة جامعية للقتل رميًا بالرصاص، وقيل إن الدوافع تشبه حادثة نيرة، لكن حُظر النشر في القضية وغابت عنا بقية التفاصيل.

 

هذه الحوادث ليست طارئة، فقبل سنوات تعرضت فتاة تدعى روان في سوريا للقتل على يد جندي بعد خلاف عاطفي بينهما.

 

حوادث قتل النساء بدعوى "الحب"، أو ما يُسميه البعض بالجريمة العاطفية، صارت حوادث متكررة في العالم العربي، ويبدو من تصريحات قاتلي الفتيات أنهم نفذوا جريمتهم عقابًا للرفض، وقول الفتيات لا أمام رغباتهم، وكأن المسألة ليست حبًا بل حرب، وكأن النساء قطعة من الأرض، لم يستطيعوا الحصول عليها فقرروا حرقها، ما يذكرنا بقول الشاعر محمود درويش في أحد مقالاته "أنقذونا من هذا الحب القاسي".

 

يشيع مصطلح "الجريمة العاطفية" لوصف هذه الجرائم، وهي جرائم يرتكبها الرجال ضد النساء بدوافع الحب أو الغيرة أو الانتقام. ولكن البعض يرفض مصطلح "الجريمة العاطفية"، لأنهم يرون أن هذا يضفي نزعة رومانسية على الجريمة، وقد يُفهم على أنه تبرير لها، ويفضلون أن نصف هذه الجرائم على أنها جزء من العنف المبني على أساس النوع.

 

حب أم عنف!


 

لماذا يقتل الرجال النساء بدعوى الحب؟

 

ربما تكمن الإجابة في الثقافة الذكورية المهيمنة، إذ ترتبط الذكورية بشكل وثيق بالعنف، فينشأ الذكور منذ طفولتهم على فكرة أن العنف هو حل كل المشاكل، وبالتالي يكون العنف أيضًا عنوانًا للذكورة في سياق "حماية" الأنثى.

 

هكذا يفهم المجتمع عنف الذكر، بل يستوعب غضبه وثأره لكرامته بالطريقة التي يراها، خاصة فيما يُطلق عليه "الجريمة العاطفية"، إذ يُعذَر الرجل الذي يقتل زوجته السابقة لغيرته من رؤيتها مع رجل آخر مثلًا.

 

ونجد القانون يفرق في جريمة مثل "الزنا" بين الرجل والمرأة، ولا يُعتبر قتل الزوجة بسبب "الخيانة" قتلًا عمدًا، كما قد تُخفف العقوبات فيما يسمى "جرائم الشرف".

 

يؤدي هذا إلى عنف هيكلي موجه ضد النساء في المجتمع، يبدأ باعتبار العنف المنزلي ضد النساء، الذي يتلقينه من آبائهن أو إخوتهن، شأنًا عائليًا في معظم دول المنطقة العربية. فعندما تذهبين للشكوى في قسم الشرطة من تعنيف عائلتك أو زوجك، لا يرى المسؤولون هناك أن للدولة دخلًا في الأمر، إذ يعتبرونها ضمن مشاكل البيوت التي لا يُفترض أن يحكمها القانون.

 

العنف ضد المرأة

 

يعارض هذا ما تعلمناه من النضال النسوي على مر التاريخ، وهو أن "الشخصي سياسي"، بمعنى أن المشاكل الشخصية جزء من مشكلة اجتماعية كبرى، تحتاج إلى تعديلات اجتماعية وسياسية، فإذا وقفت الدولة ضد جرائم العنف ضد النساء، وسَنَّت قانونًا موحدًا للعنف، سيساهم ذلك في حل مشكلات العنف المنزلي الشخصية.

 

العنف الهيكلي ضد النساء في المجتمع لا يتمثل في التعامل التشريعي والقانوني فحسب، بل يمتد إلى الفهم الديني الشائع في العالم العربي.

 

بالعودة إلى حادث مقتل نيرة وتعامل الخطاب الديني معه، لم يجد بعض الشيوخ حرجًا في لوم الضحية التي قُتلت بدم بارد، وهو جزء من توجه بعض الشيوخ للاستهانة بالعنف ضد النساء، بل يتحدثون عن ضرورة "تأديب" الزوجة وتقويمها إذا لزم الأمر.

 

يلقى هذا الخطاب صدى لدى بعض ممارسي العنف، ويعتبرونه ذريعة له.

 

ووسط هذه الرؤية الشائعة للدين، يتراجع الاستعداد لمناقشة رؤى مختلفة وأكثر تقدمية للدين، إذ ناقش شيوخ آخرون ضرورة إعادة فهم مصطلح الضرب في النصوص الدينية، لأنهم لا يرون الضرب مقبولًا في عصرنا الحالي.

 

عنف على الشاشة


 

كل ما سبق يعتبر جزءًا من تطبيع المجتمع مع العنف ضد المرأة، وهو يمتد إلى كل مناحي ثقافتنا.

 

تحيطنا الأمثال الشعبية التي نتربى عليها، التي ترى أن "ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب".

 

تحيطنا المسلسلات والأفلام التي لا نستطيع أن نحصي فيها المرات التي تتعرض فيها المرأة للضرب، وترسخ فكرة أن النساء يفضلن الرجل الذي يعنفهن.

 

نذكر فيلم "صراع في الميناء"، الذي تقول فيه شخصية فاتن حمامة أنها تفضل "رجب" الذي يصفعها بعد كل كلمة، على "ممدوح" الذي يعاملها كأميرة. وللمفارقة فقد هددها رجب (عمر الشريف) في الفيلم بالقتل إن تزوجت غيره.

 

وقد ذكر الناقد السينمائي سامي السلاموني ذات مرة أن الأفلام تغازل الجمهور بمشاهد العنف الذي يجعلهم في حالة نشوة.

 

تُصَدِّر الأفلام أيضًا ألا نأخذ رفض النساء بجدية، فالنساء لا يعنين تمامًا ما يقلن.

 

بالطبع لا تخلق السينما العنف، لكنها حلقة في سلسلة طويلة لجعل العنف مقبولًا خاصةً ضد الطرف الأكثر هشاشة وهو النساء. وأحياناً يكون العنف على الشاشة هو انعكاس لصورة للعنف الموجود بالفعل في المجتمع.

 

ظاهرة عالمية


 

قتل النساء بسبب جنسهن، أو بسبب حب سابق أو حب من طرف واحد، ظاهرة عالمية، ففي الولايات المتحدة تُقتل ثلاث نساء يوميًا على يد شريك حالي أو سابق، وفي فرنسا فَجَّر حادث مقتل جولي دوليب على يد زوجها السابق، في 2019، غضب النساء، وكانت جولي قد قدمت شكوى للشرطة من تهديده لها، ولم تأخذ الشرطة شكواها على محمل الجد، حتى أطلق عليها الرصاص.

 

وكانت جولي رقم 30 في سجل النساء اللاتي قُتلن في ذلك العام على يد شريك حالي أو سابق.

 

أرجعت بعض النسويات الفرنسيات سبب هذا النوع من الجرائم إلى تجذر الذكورية في الثقافة الفرنسية، والتي تعود إلى كود نابليون، أو القانون المدني الذي اعتمده نابليون، الذي يرجع إلى عام 1804، وقد أخضع هذا القانون النساء لآبائهن، وأزواجهن، بمعنى اعتبارهن ملكية خاصة للأب، والزوج من بعده. نُقل هذا القانون بالنص ذاته إلى عدة دول، مثل إيطاليا، وهولندا، والبلاد التي احتلها نابليون.

 

العنف القائم على النوع

 

ممارسة العنف كنوع من "الحماية" أيضًا منتشر حتى في الدول التي تُعتبر متقدمة، لنتذكر واقعة ضرب ويل سميث لكريس روك مقدم حفل الأوسكار بعد سخريته من زوجة سميث. رأى الكثيرون أن ما قام به سميث أمر شجاع لأنه دافع عن زوجته، لكن في الحقيقة لا يمكن رؤية ذلك إلا في سياق انتشار مفاهيم مشوهة ترى العنف سلوكًا مقبولًا، حتى في محفل عالمي يشاهده الملايين حول العالم، لأنه يجيء دفاعًا عن صورة الذكر.

 

ومن المرجح أن هذا الذكر سيمارس العنف أيضًا تجاه زوجته في مشهد آخر، لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع غضبه.

 

بالتأكيد لن ينتهي العنف ضد النساء بجرة قلم. بالطبع سيكون سن قوانين تجرم العنف ضد النساء وتغيير الخطاب الديني خطوة محورية، ولكن القانون لا يعمل في الفراغ، لأن الأصعب هو تغيير المفاهيم والثقافة السائدة.

 

أسباب العنف متجذرة داخل كل الكيانات والمؤسسات الأبوية، وفي الثقافات الشرقية أو الغربية، بنسب متفاوتة، حتى أننا نصادف هذه الثقافة في مؤسسات تدعي احترام المرأة وحقوقها.

 

أما الحلول فتكمن في المساواة الحقيقية بين الجنسين، وخلخلة ثقافة المجتمع الذي تعتبر النساء جنسًا أدنى من الرجال، فتفرح العائلة وتتفاخر بولادة طفل ذكر، في حين يعتبر أن ولادة أنثى بمثابة عبء.

 

يتعامل مجتمعنا بهذه الطريقة، حتى بشكل غير واعٍ، يتعامل على أن النساء من جنس أقل، فيقلل من شكواهن، ويستهين بالعنف ضدهن، بل يستخدمه أحيانًا لإبعادهن عن المجال العام، لتعود إلى مكانها الطبيعي في نظره وهو المنزل.

 

المساواة الجندرية هي عملية طويلة تبدأ من الأسرة بتربية الإناث مثل الذكور، وبسياسات مؤيدة للنساء تعطي لهن فرصًا متساوية في التعليم، وفي العمل، وتراعي أدوارها الاجتماعية، وتضعهن في أماكن اتخاذ القرار، وتنتهي بانتزاع أسباب العنف الكامنة في داخلنا.