صورة المثلية والعبور الجنسي في السينما العربية



2023-01-04

في صيف عام 2006، شَكَّل مجلس الشعب المصري لجنة لمشاهدة فيلم "عمارة يعقوبيان" بعد أن جمع النائب مصطفى بكري توقيعات 112 عضوًا في البرلمان طالبوا بحذف مشاهد المثلية التي اعتبروها مسيئة لسمعة مصر.

 

لم تكن هذه هي المرة الأولى أو الأخيرة، فكلما ظهرت شخصية مثلية على الشاشة صاحبها جدل لا يدور فقط تحت قبة البرلمان وبين أروقة الرقابة، لكنه امتد إلى الجمهور الذي يربط بين الممثل ودوره ويبدأ في مهاجمته.

 

هذا الهجوم طال نجوم السينما مثل يوسف شعبان بعد دوره في "حمام الملاطيلي"، وخالد الصاوي بعد "عمارة يعقوبيان"، وغيرهما كثيرون، مما جعل الكثير من الممثلين يرفضون أداء الأدوار المثلية خوفَا من هذا الخلط، وضَيَّق المساحة المتاحة لعرض الشخصيات المثلية على شاشات السينما أكثر وأكثر.

 

هل حملت الكلمات مساحة تحرر أوسع من الصورة؟ ربما، فمن أبو نواس وحتى نزار قباني شهد الشعر العربي القصائد التي تعاملت مع المثلية بصراحة ودون حذر، بينما جاء الأمر في السينما مشوبًا بالمخاطر، بداية من مقص الرقيب وليس انتهاء بأحكام الجمهور ورفضهم بل وأحيانًا بساحات المحاكم.

 

ورغم كل المحاذير قَدَّمَت السينما المصرية عددًا من الأفلام التي تتناول المثلية سواء كموضوع رئيسي أو ثانوي، وإن اختلفت زوايا التناول ودرجة التصريح من فيلم إلى آخر.

 

واحد من أوائل هذه الأفلام هو فيلم "الطريق المسدود" (1958) من إخراج صلاح أبو سيف، والذي قَدَّم الشخصية المثلية بتلميحات مستترة دون تصريح، من خلال شخصية "حسنية" التي لعبت دورها ملك الجمل، والتي كانت تبدي عبارات إعجاب حسية جريئة بالبطلة فايزة (فاتن حمامة)، مع ارتدائها ملابس أقرب لملابس الذكور بمعايير ذلك العصر.

 

بين التهديد والتنمر

 

تراوح تقديم صورة الشخصية المثلية على الشاشة في الكثير من الأفلام بين السخرية والعنف، لتُقَدَّم بشكل كوميدي وتصبح عرضة للتهكم والتنمر، أوباعتبارها مصدر خطر على البطل الذكر الغيري، الذي يتعامل معها بعنف مدافعًا عن (شرفه) المهدد.

 

بدت الكوميديا في هذه الحالة بمثابة باب خلفي لتمرير المثلية على الشاشة دون إثارة حفيظة المُشاهد، ومن أبرز الأمثلة على ذلك دور مساعد الراقصة/ صبي العالمة المثلي، الذي قُدِّم كمصدر للكوميديا في أفلام درامية بالأساس، ومن أبرز من قدمه الفنان فاروق فلوكس في دور "سِكسكة" بفيلم "درب الهوى"، وكذلك دور "شفيق ترتر" في فيلم "الراقصة والسياسي".

 

 

وذَكَر فلوكس في حديث تلفزيوني أنه تعرض للوصم والنبذ من زملائه في عمله كمهندس، كما تعرض أبناؤه للتنمر في المدرسة، بسبب ارتداء والدهم ملابس وماكياج نسائي في الفيلم، في مجتمع يخلط بين الواقع والتمثيل، ولا يتسامح مع المثلي حتى لو أضحكه على الشاشة.

 

المثلية

 

يُذكَر أن التنمر والوصم لا يقتصر على الجمهور، لكنه يمتد حتى إلى أبناء المهنة نفسها وبعد مرور كل هذه السنوات، إذ سَخَر الممثل محمد رمضان من فلوكس وقال "نجوم كبار ورموز من رموز الفن المصري، كانوا مضطرين يعملوا أدوار في بدايتهم لو هجوع مش هعملها، دور صبي عالمة عملها نجم كبير في بداياته".

 

وتبدو أحيانًا هذه السخرية المفرطة من الشخصيات المثلية في السينما، تأكيدًا على حالة القلق من وجودهم، والشعور بأنهم مصدر تهديد لغيرهم من الشخصيات.

 

ظهر ذلك بوضوح في مشهد عابر من فيلم "الإرهاب والكباب"، إذ يبحث عادل إمام عن شخص يدعى مدحت في حمام أحد الفنادق، فيخرج له شخص مثلي ويقول له "لو عايزني مدحت أكون لك مدحت".

 

يتذكر مشاهدو الفيلم من المصريين في أوائل التسعينيات كيف تحول اسم "مدحت" وقتها لوسيلة لإطلاق النكات والسخرية من كل من لا يمارس "الذكورة" المقبولة مجتمعيًا، من ناحية المظهر أو طريقة الكلام، باعتباره (مدحت). والطريف أن عادل إمام نفسه بدأ مسيرته بدور مشابه، هو دور مساعد الراقصة/ صبي العالمة في فيلم "سيد درويش" وإن كان أعلن استياؤه من الدور وعدم رغبته في تذكره، فيما يبدو وكأنه امتداد لهذا الخلط بين الممثل وأدواره حتى بين الممثلين أنفسهم.

 

ظهر نموذج المثلي كمصدر تهديد للبطل الذكر في عدد آخر من الأفلام في مشاهد ثانوية، من بينها شخصية الجار في فيلم "عمر وسلمى 2"، فسلمى (مي عز الدين) أرادت الهرب من ملاحقة النساء لزوجها الوسيم عمر (تامر حسني) لتُفاجأ بتحرش رجل به في إطار مشهد ساخر.

 

لم يقتصر ذلك النوع من السخرية على الشخصيات المثلية فقط، بل تخطاها إلى أي شخصية ذكرية تُظهِر ميلًا مختلفًا في اختياراتها، لنتذكر شخصية "لوسي ابن طنط فكيهة" في فيلم "إشاعة حب"، رغم تقديمه كشخصية غيرية تنافس البطل على حب البطلة (سعاد حسني)، فقد سخر الفيلم من حركاته وصوته الأكثر نعومة، واهتمامه بالرقص والموسيقي في مقابل اهتمامات الذكر الصلب أو الرجل الحقيقي حسين (عمر الشريف) وأسلوبه في الحياة. وتكرر الدور بشكل يكاد يكون مُستَنسَخًا في فيلم "البحث عن فضيحة" من خلال شخصية ريكو التي أداها ناجي أنجلو.

 

نهايات دموية

 

العنف والنهايات الدموية من الأنماط المتكررة، حتى في بعض الأفلام التي قدمت المثلية بدرجة من التعاطف، فيما بدا وكأنه تبرؤ من هذا التعاطف، أمام جمهور متعطش لإنزال عقوبة السماء العاجلة.

 

رأينا ذلك في فيلم "عمارة يعقوبيان"، رغم ما بدا من تعاطفه مع شخصية حاتم رشيد (خالد الصاوي)، إلا أن نهايته جاءت بالقتل، كما اختار الفيلم أيضًا عقاب رفيقه عبد ربه (باسم سمرة) بموت طفله.

 

الميول الجنسية

 

الانتحار أيضا كان نهاية (سناء يونس) في فيلم "جنون الشباب" بعد أن تخلت عنها صديقتها وتزوجت، ولم تستطع التعايش مع ميولها. وهو أيضا نهاية "عزت"، صديق البطل، والذي أدى دوره يوسف متى في فيلم "قطة على نار". أما متولي (عبد الله محمود) في فيلم "ديسكو ديسكو" فقد انتهى أمره بالإصابة بالإيدز.

 

التعاطف مع المريض

 

بعض الأعمال السينمائية قدمت الشخصية المثلية بنوع من التعاطف، وأفردت لها مساحة أكبر من سابقيها، ولكن التعاطف انطلق من اعتبار المثلية مرض نفسي، وليس ميلًا أو تفضيلًا جنسيًا، فقدمتها كنتيجة للظروف الأسرية المسيئة أو التعرض للتحرش الجنسي في الطفولة.

 

في فيلم "عمارة يعقوبيان" ظهر ذلك في شخصية حاتم رشيد الذي تعرض للإهمال من أبويه، ولم يجد من يحنو عليه سوى خادم الأسرة النوبي الذي استغله جنسيًا، وتجلى ذلك في مشهد يحاكم فيه حاتم صورة والديه.

 

نفس الأمر في حالة فيلم "حمام الملاطيلي"، إذ يبكي رؤوف الفنان المثلي بين ذراعي طاهر (محمد العربي) ويحكي عن ميله الجنسي باعتباره مرضًا لا علاج له تسببت فيه أمه بتدليلها الزائد له، ثم هجرته إلى خارج البلاد بعد أن عرفت من الطبيب النفسي أن (مرضه) لا شفاء منه.

 

في فيلم "جنون الشباب" أُعيد سبب مثلية الشخصية النسائية إلى علاقتها المضطربة بوالدها التي أدت بها إلى كراهية الرجال جميعًا، وانتهى بها الأمر إلى الانتحار.

 

فيلم "أسرار عائلية" اختار نهاية أخرى للمرض، فبينما عانت الشخصية المثلية في الفيلم (مروان) من أب غائب وأم مسيطرة وتحرش جنسي، وهي كما يبدو لدى الكثير من المخرجين كل المكونات اللازمة لطبخة الشخصية المثلية على الشاشة، فمروان يتصالح مع عائلته وينجح الطبيب النفسي في (علاجه) من المثلية، ليسعد الجميع، مروان وأسرته، والجمهور، الذي لا يرضى إلا بعقاب الشخصية المثلية أو على الأقل توبتها وعلاجها.

 

الجنس هو الهدف

 

ركزت بعض الأعمال السينمائية على الجانب الجنسي في حياة الشخصية المثلية مع إهمال بقية جوانب حياتها، وكأنها لا تنشغل سوى بالجنس فقط كمحدد وحيد لهويتها ووجودها، دون التفات لبقية تفاصيل الشخصية، لتبدو مسطحة، مجرد قالب للتعبير عن المثلية، دون رسم أبعاد أخرى لها إلا في قليل من الاستثناءات.

 

وحتى الشخصيات التي اتخذت أبعادًا أوسع في الحكي عنها بدا وكأن كل تلك الأبعاد مجرد تفسيرات أو تبريرات لتوجهها الجنسي، فبدت شخصيات نهمة للحصول على متعة جسدية دون اعتبار لأي أمر آخر، عكس الشخصيات الغيرية التي تُقَدَّم في الأعمال نفسها كبشر من لحم ودم.

 

الميل الجنسي

 

قُدِّمت شخصية المخرج شوكت حلبي في فيلم "رشة جريئة"، والذي أدى دوره على حسنين، كشخصية متحرشة ومغتصبة، يستغل الممثلين الشباب جنسيًا من أجل منحهم فرصة التمثيل.

 

وكذلك في فيلم "المزاج" ظهرت سناء يونس في دور السجينة التي تقوم باغتصاب السجينات الأخريات والتحرش بهن، وإن كان يحسب له أنه من الأعمال القليلة التي تناولت المثلية الجنسية في السجون.

 

أعمال أكثر تسامحًا

 

قليلة هي الأعمال السينمائية التي قدمت المثليين بشكل متسامح، من بينها فيلم "مرسيدس" ليسري نصر الله الذي قَدَّم شخصيتين مثليتين هما جمال (مجدي كامل) والذي يعيش مع حبيبه (باسم سمرة).

 

ورغم تقديم حياتهما في مجتمع يمتلئ بالمخدرات والدعارة إلا أن الفيلم لم يقدم حُكمًا أخلاقيا صريحا عليهما، ولم يقدم الشخصية المثلية باعتبارها شخصية تسعى حثيثًا خلف الجنس فقط، بل قدمهما كحبيبين في علاقة، رغم أن أحدهما انتهت حياته بأن صدمته سيارة وهو يحاول إنقاذ حبيبه من الموت.

 

فيلم "رسائل البحر" لداوود عبد السيد، ظهرت فيه كارلا (سامية أسعد)، الحبيبة الأولى للبطل في علاقة مثلية مع امرأة أخرى، لكن علاقة يحيى بها لا تسودها أحكام بل تتغير إلى علاقة صداقة.

 

في فيلم "ديل السمكة" لوحيد حامد، نسمع صوت الشخصية المثلية واضحًا في التعبير دون الحكم عليها. بعد محاولته الفاشلة لإغواء كشاف النور (عمرو واكد) يقول الرجل المثلي له: "دي رغبتك، وأنت حر فيها ولازم أحترمها، الحكاية مفيش فيها إجبار، وإلا تبقى عملية اغتصاب. لازم الرغبة تكون موجودة، قوية ومتبادلة بين الطرفين. لازم يبقى في حبّ. إحنا بني آدمين مش وحوش في غابة. لازم الحسّ الإنساني يبقى موجود ومن دونه تبقى (الحكاية) بايخة وسخيفة". ويجيبه كشاف النور "دي حريتك يا باشا".

 

المخرج يوسف شاهين من المخرجين الذين قدموا المثلية الجنسية أكثر من مرة في أفلامه، وذلك في أطر علاقات حب إنسانية دون تقديم الجنس بوضوح كأحد جوانبها.

 

ظهر ذلك بقوة في "إسكندرية.. ليه؟" إذ اعتاد عادل بك (أحمد محرز) -الثري الوطني- باختطاف الجنود الأجانب لقتلهم، لكنه يقع في غرام جندي نيوزلندي صغير السن، والذي يستيقظ من نومه في فراش عادل بملابسه الداخلية، ويسأله إن كان ينوي قتله فيخبره أنه قضى الليل بأكمله يتأمله.

 

كما ظهرت علاقة مثلية في فيلم "وداعا بونابارت"، إذ يقع جنرال فرنسي في غرام شاب مصري.

 

ربما لا يزال الأمر يحتاج للكثير من الجهد، فلا تزال المساحة على الشاشة ضيقة، سواء بسبب هجوم المشاهدين، أو حتى الأحكام التي يحملها كتاب ومخرجو السينما أنفسهم، وعدم القدرة على الابتعاد عن القوالب المعتادة لرسم الشخصيات ذات التوجهات الجنسية المختلفة عن المعتاد، وحصرها في نطاقات ضيقة لا تقبل الاختلاف حتى لو تظاهرت بقبوله.


مصادر

بنيوية الفيلم الشاهيني بين لذة النظر والتلصصية على الرجل

 دسّ السُّم في الرّينبو

من «لوسي» إلى «حاتم رشيد»: كيف تؤثر السينما المصرية على الخطاب الاجتماعي تجاه المثليين والمثليات؟

وحده "رسائل البحر" أنصف المثلية في السينما