من حاجز الصمت إلى كسر عضم.. الإيدز في المسلسلات السوريّة

بقلم : عمر الخطيب



2023-05-12

لطالما حمل مرض الإيدز، الناتج عن فيروس نقص المناعة المكتسبة، أو في تسمية أخرى "العوز المناعي"، تصوّرات اجتماعيّة مغلوطة وليدة المنظومة الأخلاقية التي شيطنته وربطته بسلوكيّات معيّنة مثل الجنس خارج إطار الزواج، أو المثليّة الجنسيّة (تحتفظ تلك المنظومة بالتعبير المرفوض: الشذوذ الجنسي) أو المخدّرات. ارتبط الإيدز دومًا بخرافات اجتماعيّة وطبيّة، وشكّل على مدار سنوات رعبًا لمجتمعات كبيرة؛ نتيجة الوصم من الإعلام والسياسة.

 

انعكست هذه الصورة على شتّى أنواع الإنتاج الإعلامي والفنّي، في العالم أجمع وفي العالم العربي على وجه الخصوص، إذ ظهر الإيدز كصورة كارثيّة مطلقة، مرتبطة -بالطبع- بالكثير من العار والتعييب.

 

على الرغم من التغييرات الكبيرة في تناول قضايا الجنسانيّة، ومن بينها مرض الإيدز، في العالم العربي، إلا أنه ما زال في الوسائط الأكثر انتشارًا (mainstream media) يحمل الصورة المحافظة المغلوطة التي عفى عليها الزمن.

 

ينطبق الأمر على المسلسلات السورية، التي يشاهدها الملايين من العرب، وفي الأسطر القادمة نتناول حالة مسلسلين سوريين تناولا المرض يفصل بينهما عقدين من الزمن، هما "كسر عضم" و "حاجز الصمت".

 

عودة الإيدز إلى الشاشة


 

حقق مسلسل "كسر عضم" الذي عرض رمضان الماضي (2022) نجاحًا كبيرًا من حيث المشاهدات والانتشار الجماهيري، بالإضافة إلى ردود فعل النقّاد والإعلام عليه، حتّى أعلنت الشركة المنتجة مؤخرًا عن تأجيل الجزء الثاني منه "للحفاظ على نفس المستوى".

تتعدد جوانب "التجديد" في المسلسل، أو بالأحرى "العودة" إلى عناصر الدراما السورية في أوجها؛ ومنها كما كتب نقّاد، العودة للمسلسلات السوريّة الخالصة بعد اللجوء إلى تلك المشتركة بين جنسيات عدة لسنوات طويلة بعد الثورة. والعودة كانت لنمط مشابه جدًا للمسلسلات التي أحدثت صدى كبيرًا وشهرة عالية، مثل "غزلان في غابة الذئاب" لرشا هشام شربتجي مخرجة "كسر عضم"، والتي يمكن تلخيصها بحملها طابع "أكشن" (مافيات، سلاح، جرائم)، وتتناول في صلبها قضايا الفساد السياسي الذي ينعكس على جميع جوانب الحياة في سوريا.

 

ومن الجدير الالتفات إليه أن مما أعاده "كسر عضم" إلى الشاشة والمسلسلات السورية هو مرض الإيدز، الأمر الذي غاب عن الدراما السورية لسنوات.

 

كسر عضم

المصاب في الإيدز في "كسر عضم" هو الشخصية الرئيسيّة "أبو ريان" (فايز قزق)، وهو مسؤول في منصب رسمي غير مذكور في النظام، ورجل أعمال فاسد ومجرم. يمثّل "أبو ريان" في المسلسل شرًا أقرب ما يكون إلى المطلق، وجبروتًا لا يقدر عليه أحد من مؤسسات دولة أو مجرمين ورؤساء مافيات آخرين، ولا حتّى نهاية ابنه المأساوية بانتحاره نتيجة الحياة الصعبة التي عاشها معه. يعيث "أبو ريان" في الأرض فسادًا، ويراكم المال والسلطة والقوّة دون أن يردّه أحد، باستثناء إصابته بالإيدز الذي ينتقل له من علاقة جنسيّة خارج إطار زواجه، وينقله بدوره إلى إحدى "ضحاياه".

 

هكذا، تكون حسب "كسر عضم" تجربة الإصابة بمرض مثل الإيدز هي عقاب كَوني أو جزء من العدل المستحقّ على المجرم الذي أضرّ وفتك بالعشرات، وكأنه يقول لنا (بنيّة حسنة): مهما طغى الإنسان وتجبّر سيأتي في النهاية ما يكسر عضمه، وكسر العضم هنا هو مرض الإيدز.

 

يظهر الإيدز مرّة أخرى في مسلسل سوري كمأساة مطلقة يُصاب بها الأشرار نتيجة أفعالهم، وتنتقل إلى إحدى "ضحاياهم" المساكين (مثل يمنى التي تُصاب بالمرض من أبو ريان في المسلسل)، وليس كتجارب، أي مثل العشرات من الأمراض أو الجائحات الصحيّة التي تصيب ملايين البشر يوميًا سواء أكانت جنسيّة أم لا، وهو طبعًا الأمر المرتبط بالتصوّرات الاجتماعيّة والصورة السلبيّة المترسّخة حول الإيدز.

 

فاتت "كسر عضم" التغييرات الطبيّة الكبيرة بخصوص مرض الإيدز في عالمنا اليوم، والذي يمكن التعايش معه حياة طبيعيّة في حال الالتزام بالأنظمة الدوائيّة مثله مثل أمراض أخرى يُصاب بها الإنسان، وقدّم في عام 2023 صورة مرعبة عن المرض كما لو أننا في بداية تسعينيات القرن الماضي في بدايات اكتشاف المرض والصراع من أجل إيجاد علاجات له. والمفارقة، وإن كانت هامشية، أن المصاب الذي "كسر المرض عضمه" في المسلسل، "أبو ريان"، هو بمستوى اقتصادي عالٍ جدًا يتيح له إمكانيّة الوصول لجميع العلاجات وتلقي المعرفة حول المرض، على العكس من بعض الفئات المسحوقة التي قد تواجه صعوبة في الوصول إلى الدواء أو الكشف عن المرض.

 

علاج فيروس نقص المناعة

بناء حاجز الرعب


 

نعود إلى الوراء من "كسر عضم" إلى ما يقارب العقدين في الدراما السوريّة، وتحديدًا مع المسلسل الذي شهد انتشارًا واسعًا حينها حتّى أنتج جزء ثانٍ منه بحصيلة تزيد عن ستين حلقة (بين عامي 2004 و2008)، ورسّخ صورة ما عن مرض الإيدز لأجيال كاملة حولنا، ألا وهو "حاجز الصمت".

 

حاجز الصمت هو النموذج الراسخ والأكبر لتناول موضوع الإيدز في الإنتاج السينمائي والدرامي العربي بشكلٍ عام، وفي المسلسلات السورية تحديدًا، حيث لا يكتفي بضم شخصية أو أكثر مصابين في المرض أو يحملون الفيروس، أو بكونه مجرّد جزء من القصّة والحبكة الدرامية، بل يعرض المسلسل قصة مركز لعلاج وتأهيل المصابين، والحبكة الرئيسيّة حول باحثة اجتماعية تنفّذ بحثًا عن الموضوع، فتقصد المركز لمقابلة المصابين لتجد أن ابنها الذي كان يعيش في الخارج حاملًا للمرض. وبذلك يتنقّل المسلسل بين قصص مختلفة لأشخاص مصابين بالمرض، والطرق المختلفة التي شقّ الفيروس طريقه إليهم.

 

يمكن تلخيص مقولة المسلسل العامّة التي تصبّ فيها جميع القصص الواردة فيه أن الإيدز يعني نهاية الإنسان الحتميّة، فالمصابين فيه يقعون بالضرورة ضمن ثنائيّة قاسية بكونهم مجرمين مستحقين لهذا العقاب أو مجرد ضحايا منزوعي الأهلية تمامًا لا ذنب لهم في هذا "الابتلاء". فالمخطئين المستحقّين للعقاب (بمنطق المسلسل) تتنوّع قصصهم، لكنّها تدور في مجملها حول الخروج من أعراف المجتمع وأخلاقيّاته، مثل الممارسين للجنس خارج إطار الزواج، أو "الشذوذ" على حد تعبيرهم، أو المخدرات، وبذلك يقوم المسلسل بأكمله على مفاهيم أخلاقيّة وذكوريّة مثل الشرف والاستقامة والانحراف.

 

من خلال ثنائيّة المجرم- الضحية هذه، حاول المسلسل "تبرئة" بعض المصابين في الفيروس كونهم مجرد ضحايا اختارتهم الأقدار ليصابوا بالمرض، وبالتالي دعوة للتعاطف معهم وإثبات أن لا ذنب لهم في هذه "الكارثة" ومن غير العادل الحكم عليهم. إلا أنه على الرغم من هذه النوايا الحسنة للمسلسل وصنّاعه، إلا أنه في المحصّلة يعيد إنتاج فكرة أن المرض هو أقصى درجة من المصائب التي قد تصيب الإنسان، تمامًا كما هو الحال مع "كسر عضم" الأجدد.

 

لا أحاول هنا التخفيف من روع تجربة من هذا النوع، سواء قبل عقدين من الآن أو الآن، مثلها مثل أي مرض مزمن أو صعب آخر، إلا أنه لا شكّ أن الرعب المحيط فيها يرتبط بالدرجة الأولى في إسقاطات المرض الاجتماعية والتصوّرات حوله وليس حول تجربة الإصابة بالفيروس نفسها.

 

حاجز الصمت

 

ممّا يجدر الإشارة إليه ارتباط هذه الموجة بتوجّهات عالميّة للتوعية حول المرض/الفيروس، والتي كانت بدفع من منظّمات دوليّة على رأسها الأمم المتّحدة، وهو ما يمكن ملاحظته في دول أخرى عربيًا مثل مصر في تلك الفترة. نرى هذا التوجه في "مسلسل الإيدز"، فالإطار الجامع لجميع القصص في المسلسل هو مركز تفتحه وزارة الصحة السورية بدعم من للأمم المتحدة، والتي وفقًا للمسلسل تقوم حملة في جميع أنحاء العالم "لكسر حاجز الصمت" حول الإيدز. ويعكس ذلك من خلال مشاهد مباشرة ومبالغ فيها حول دور الأمم المتحدة في محاربة المرض ليغدو الأمر أشبه بدعاية ترويجية مباشرة للهيئة، مثل ذكر المسؤول عن المركز أن الأمم المتحدة "تفعل أقصى ما يمكن للتوعية حول المرض" في أحد المشاهد.

 

هذا بالإضافة إلى تحوّل الإيدز في تلك الفترة إلى موضوع "ساخن" لجذب المشاهدات للمسلسلات التجارية والإعلام الأصفر، وهو ما يفسّر وجود شخصيّة مصابة بالمرض في مسلسل آخر أُنتج قبل عامين من "حاجز الصمت" ألا وهو "أبناء القهر"، وأثار حضور مرض الإيدز حينها بلبلة في وسائل الإعلام وشكّل لقاء أوّل قد يكون صادمًا للمشاهد العربي الذي انكشف على الموضوع بهذا الوضوح مع قصّة "نوار" في أبناء القهر.

 

ومن المفارقة هو الإشارة لأبناء القهر لمرجع أو مصدر للمعرفة في أحد مشاهد "حاجز الصمت"، حيث تصف شخصيّة ما أحد المصابين في المركز التأهيلي بأن لديه بثور كتلك التي حملها "نوار" في أبناء القهر، مع العلم أن موضوع البثور طبيعي جدًا مع أيّ مرض يصيب المناعة، فهو تمامًا مثل خروج حمّى على جلد أو بشرة شخص مصاب بأنفلونزا، إلا أنه يتحوّل لإشارة لتمييز مرضى الإيدز، أو بالأحرى وصمهم.

 

صورة مستمرّة رغم التغييرات


 

نخلص ممّا سبق بأن تمثيل مرض الإيدز لم يتغيّر منذ بداية الألفينات وبدء ظهوره على الشاشة حتّى العام الماضي، فهو دائمًا جزء من "نهاية" أو حبكة دراميّة ذات رمزيّات سلبية ومنفّرة. إذا تتبعنا الخيط المشترك من "حاجز الصمت" إلى "كسر عضم" نجد أن المسلسلين يشتركان في إظهار أن الإيدز كارثة حتمية نهايتها الفناء، وهي نتيجة لأعمال الإنسان أو بلاءً مطلقًا له.

 

فيروس نقص المناعة

 

أضاعت هذه المسلسلات الفرصة لتقديم صورة أقرب للواقع حول المرض وحيثيّات حمله أو الإصابة به، وكيفيّة تغيّر حياة المرضى بعد الإصابة به بشكل واقعي، وبأنه كغيره من الأمراض والالتهابات والفيروسات، يمكن أن يصيب أي شخص سواء بسبب اتّباع أسلوب حياة ما أو للصدفة.

 

من اللافت بقاء صورة المرض في المسلسلين الذين يفصل بينهما ما يقرب العقدين، على الرغم من التغييرات الكبيرة التي حدثت في هذه السنوات على مستويين: أولًا، على مستوى المرض نفسه والتعاطي معه طبيًا كغيره من الأمراض يمكن التعايش معه في معظم الحالات باتّباع أنظمة دوائيّة معيّنة، وممارسة مختلف الأنشطة الحياتية المهنيّة والجنسية والعاطفية والاجتماعية، ومحاولة تعميم هذه الصورة شعبيًا. وثانيًا، التغييرات التي مرت بها الدراما السورية لعوامل كثيرة، ما دفعها للتجديد في معالجة العديد من القضايا منها تلك المتعلّقة في الجنسانيّة. إلا أن هذه التغييرات لم تكون من نصيب صورة مرض الإيدز والإصابة به ما بين المسلسلين.

 

للمسلسلات السورية أهمية كبيرة لوجود سوق كبير يستهلكها ويتأثّر بها كونها من أبرز أشكال الفنّ الشعبي وواسع الانتشار (mainstream)، وبالتالي فإن تناولها لقضيّة ما سيترك أثرًا في وعي المشاهد وتعاطيه معها. ولا بدّ من إضافة كونها في تطوّر وتغيّر مستمرّ تأثرًا في حركة السوق والأنظمة السياسية وغيرها الكثير من العوامل، وعليه لا بدّ من المضيّ قدمًا في إنتاجات أخرى تقارب قضايا الجنسانيّة بطرق أكثر مسؤوليّة ودقّة، بما فيها موضوع الأمراض والالتهابات الجنسيّة مثل الإيدز.