كيف نحكي قصص ألمنا بأمل ؟ – نساء يتعايشن مع فايروس الإيدز



2017-04-02

أيار 2013 

مبادرة “مينا روزا” هي شبكة عربية للنساء المتعايشات مع فيروس نقص المناعة المكتسبة، تعمل على نشر الوعي في الوقاية من الفيروس وطرق التعايش معه وتدعم النساء المتعايشات. في إنجاز مهم للمبادرة نشروا العام الماضي كتيّب بحثي حول وضع المرأة وفيروس نقص المناعة المكتسبة في المنطقة بعنوان «لنواجه… لنتكلم». وقبل ثلاث أشهر قاموا بالشراكة مع “أهل” بتشكيل فرق قيادية من خلال ورشة عمل التنظيم المجتمعي مع نساء متعايشات في كل من : لبنان، الأردن، جيبوتي، ليبيا، السعودية، تونس، اليمن، السودان، مصر، الجزائر، المغرب. بهدف أن تقود النساء في بلادهن حملات محددة وهادفة لتقليل نسبة الاصابة بالفيروس ونقله للأطفال على وجه التحديد وتوفير العلاج بكرامة.
في هذا التأمل سأتحدّث عن خمس بنود شعرت أنّ نهج رواية القصة العامة في التنظيم المجتمعي أحدث تغييرا فيهن و في رؤية المشاركات لقضيتهن وقصصهن و بالتالي لنهجهن في قيادة الحملة.

 

 

1. الحكاية عن الذات الضعيفة المقهورة المظلومة و اسقاط الذات القادرة:

رحلة المشاركات في التعايش مع فايروس نقص المناعة هي رحلة  مليئة بمحطات فقدان، فيها موت لزوج أو أخ او أبناء، حرمان من الأبناء، رفض الأهل او الأصدقاء. ومحطات إنكار وعدم تصديق فيها صور للحظات معرفة الإصابة بالفايروس، مشاهد بكاء ومحاولة الانغماس في الذات وإيجاد فلسفة وجودية قادرة على حمل هذا الكمّ من الصدمة والوجع، مشاهد عن عدم معرفة ماذا اتصرّف؟ إلى أين أذهب؟ مع من أتحدّث؟ ومشاهد فيها محاولات انتحار او نكران تام ورفض لأخذ العلاج .. الخ من محطات التحديات ، وهنا كان أول اختلاف تعرّضت له المشاركات في رواية قصتهن اذ عليهن هذه المرّة أن يحكين قصتهن فقط  بدقيقتين، وهذا يعني اختصار الكثير من المشاهد والكلام، والبحث عن أكثر محطّة خلقت في نفس المتعايشة تحدٍ وألم ووضعتها أمام خيار، ثم الانتقال من وصف المشهد للحديث عن الاختيار الذي مارسته. وفي هذه النقلة يكمن التحوّل في الحديث عن ذواتنا بوجعها وألمها والظلم الذي تتعرض له إلى التركيز أيضاً على ذواتنا القادرة الفاعلة التي لم تستلم للألم. وإلاّ لما كانت حاضرة اليوم معنا في تجمّع يخطط للبدء في حملة تغير. رغم إسقاطهنّ للأمل، الاّ أنه موجود وكان من السهل استخراجه من داخلهن وحثهن على الحكاية عنه بصوت عالٍ أيضا، إذ بمجرد توجيه سؤال عن ماذا يعملن الآن، تتفاجأ بأن أغلبهن قياديات في مؤسسات أو جمعيات تعمل على هذا الموضوع في بلادهن، والمفاجأة تأتي ليس لأنه من غير المتوقع أن يكنّ في مواقع قيادية، ولكن لأنك كمستمع لم تسمع منهّن إلّا عن المعاناة، والمعاناة التي سمعتها أكبر بكثير مما قرأته أو تخيلته عن معاناة المتعايشين، وبكل هذا الألم ورغمه هنّ قياديات والبعض الآخر تزوّجن مرة أخرى من متعايشين آخرين في بلادهم وبعضهن مع تلقي العلاج اللازم وثقافة أخذ العلاج بالتزام و وعي أنجبن أطفالا أغلبهم غير حاملين للفيروس.

 

2- الانكماش على الألم ورفض صوت العاطفة والاكتفاء بصوت العقل:

جوهر التنظيم المجتمعي هو تحرير القلب قصصيا وعاطفيا ليتحرر العقل استراتيجيا و فكريا وبالتالي تتحرك اليدان نحو العمل.

و تحرير القلب، يعني التواصل مع عاطفتنا الداخلية و مُكاشفتها وكشفها بارتياح. وبمّا أن الهدف من العمل القصصي ليس العلاج النفسي، فنحن نرّكز على العودة للذات لاستخراج لحظات الألم وأيضا لحظات الأمل. واذا لم يشعر الشخص بالارتياح مع عاطفته ومع مشاركتها فهو لن يتعاطى مع نفسه عاطفيا ولا مع الآخرين وهذا يعني بالضرورة عدم تحرير القلب وعدم معرفة القيم الأصيلة في الشخص.

مقاومة تحرير القلب عاطفيا تأتي بعد عمر من الألم الشديد، يختار صاحبه أن يجمّد تعاطيه العاطفي الذي أضناه، يحيّد مشاعره ويفكّر بالعقل فقط. وهذا كان التحدي الثاني لنا في هذه الورشة، إذ كانت شخصية الإنسان الجبل ظاهرة عند بعض المشاركات، وهذا يعني إسقاط المشاهد النابضة بالمشاعر من قصصهن والاكتفاء بالحديث عن المقدرة أو عن ماذا يجب أن نفعل. عدم اندماجنا وانفتاحنا عاطفيا مع ذاتنا في قصتنا يعني بالضرورة عدم اندماج الآخرين مع ما نحكيه أو عدم تعاطيهم معنا عاطفيا أيضا. لست واثقة من السبب وراء هذا ولكن ربمّا لأنك عندما تنفتح عاطفيا وتحكي الألم والأمل أي عندما تحكي من القلب فأنت تعطي جزء منك للآخرين بكشفك له. والعطاء العاطفي غالبا يحرّك ويحرّر عاطفة المستمع. أمّا الحديث فقط عن المنجزات أو عن ماذا يجب أن نفعل والمرور سريعا على ماذا حصل معنا بدون مشاركة الآخرين به، أو الحديث عن مواجهة التحدي بدون الحديث عن التحدي نفسه، يجعل النَفَس المسموع من قصتنا هو نَفَس الأبطال القادرين. والمستمعون لا يتعاطون عاطفيا مع حكاية الأبطال لأنها لا تشبه حكايتهم في هذا الموضوع وهي لا تشبه الواقع، ولا تشبه الطبيعة البشرية التي تستخرج البطولة من لحظات تحدي قوية ومن مواجهة هذا التحدي.

  بالنهاية، هناك ثلاث طرق يحكي فيها الناس قصتهم، طريقة أولى، عاطفية جدا تنظر فيها الراوية الى نفسها كإنسانة مظلومة و ضعيفة فتحكي قصتها بطريقة تركز على الألم والشكوة  منه بالتالي تُبكي المستمع و القارئ وتشعرهم بعدم المقدرة والضعف. وما تناله راوية القصة من المستمع هي غالبا الشفقة. ومثالا على هذا أقتبس من تقرير “لنواجه لنتكلم” على لسان سيدة من السودان: «أفضّل أن يطلقوا الرصاص عليّ، ولا أعيش مع هذا المرض. لا أحد يعلم شيئاً عن الإيدز»

طريقة ثانية، عقلية جدا، لا نتوقف فيها عند لحظات الألم لا نصفها ولا نحكي عن التحدي بل نكتفي فقط بالحديث عن كيف تعاملنا مع التحد وهذا يعني أننا نرويها بطريقة تشعر المستمع والقارئ أننا أبطالا ولسنا بحاجة لدعم أو شراكة لمواجهة الأمر. ومثالا على هذا أقتبس من تقرير “لنواجه لنتكلم” على لسان سيدة من لبنان: «أعيش حياة عادية. هو مرض كغيره من الأمراض. الله هو الذي يجلبه»!

وطريقة ثالثة، نرى فيها الألم ونعي وجعه ونحكيه، وبذات الوقت نرى خياراتنا التي قمنا بها ونعي لحظات القوة في تصرفاتنا ونحكي عنها. بالتالي نكون حاضرين عاطفيا بألم وأمل وهذا يُشعر المستمع بالتعاطف العملي بدلا من الشفقة أو الانبهار. ومثالا على هذا أقتبس من مشاركة في ورشة العمل: «بعد أن علمت بالإصابة لم أصدّق، كنت أغلق أذني كلّما سمعت حروف HIV، لم أريد أن أعترف بإصابتي بالفايروس .أنا اليوم قائدة في بلدي لجمعية تسند وتدعم المتعايشين والمتعايشات، وتعترف بوجود الفيروس وانتشاره. قدت عدة حملات علنية لمطالبة الحكومة بتوفير العلاج الكامل. أنا اليوم أم لطفل سليم وجئت لكي أتعلم نهج التنظيم لأستمر في قيادة حملتنا»

 

3- الاستخفاف بقصة الأخريات والحديث عن المختلف بدلاً من المشترك:

في البداية كان هنالك شعور عند بعض المشاركات أن قصتهن مع الفايروس هي أكثر القصص ألما وصبرا ونضالا، بالتالي كنّ يستمعن بطريقة تتعامل مسبقا مع قصص الأخريات باستصغار، هذا النَفس بالحديث عن المميزات أو عن الاختلاف لا عن المشترك هو نَفس الضحية أو نفس البطلة، كلا النفَسين يجعلان المتحدثة تشعر أنها وحيدة فهي إما أن تكون الأكثر ظلما و ألما أو الأكثر مقدرة وبطولة وبالحالتين لا تشعر أنها جزء من مجموعة. في مساحة “قصتي أنا” أصبحت كل واحدة تقريبا تحكي قصتها بألم وأمل ولكن الطاقة ظلّت فردية الى أن بدأت مساحة العمل الجماعي في قصتنا نحن وبدأت المشاركات بنسج قصصهن في قصة مشتركة. هنا صار على المشاركات أن لا يحكين قصصهن وانمّا أيضا قصص غيرهّن من المشاركات. وبمجرّد أن بدأت كل مشاركة تحكي عن ألم الأخريات وتصفه بالمشاهد التي علقت ببالها مثلما حكت عن ألمها هذا جعل الجميع يحترم قصة ومشاعر الجميع ويقدرها. وأشعر المستمعات بأن ألمهن محل إنصات واهتمام من قبل كل مشاركة وأنه جزء من ألم مشترك يتم وصفه الآن. وبمجرّد أن أصبحت كل مشاركة تفتش عن مصادر الأمل بقصة الأخريات وتحكي عنه بأمل وقوة هذا جعلهن يشعرن أن قوتّهن مصدر فخرهّن جميعا وأنه جزء من قوة جماعية يتم وصفها الآن.

فالتغير الأول هنا كان بحضور نَفَس ال “نحن” في صوت المشاركات الذي حوّل بحد ذاته الطاقة في القاعة. فأصبحت كل واحدة تنظر لقصص الأخريات باهتمام و تبحث عن المشترك لا عن الفرق، تلتقط المميز لا المختلف.

أما التغير الثاني فكان  بلحظات الوعي للمقدرة. مهما اختلفت طريقة المشاركات في نسجهن ل “قصتنا نحن” الاّ انّه بنسج القصص معا و الحديث عن مشاهد الألم ومشاهد الخيارات التي قمن بها انتبهن إلى أنهن نساء قادرات كل واحدة منهن مارست خيارا قويا جعلها تكون بيننا. وهنا كان الإدراك إلى كمية الموارد المهولة التي يمتلكنها والتي تحتاج منهن للتنظيم ليقمن بالتغير الذي يرغبن به. وفي هذا نقلة من التفكير في الموارد التي يجب أن توفرها الحكومة أو المؤسسات للموارد الكامنة لدينا وكيف نستثمرها لأجل التغير.

 

4- تحديد مطلب واضح ومحدد:

لدى المشاركات قائمة طويلة من المطالبات ، مطالبات موجهة للحكومة ، للأطباء والعاملين في المجال الطبي ولوزارة الصحة، للناس والمجتمع… إلخ

في هذه المساحة بدأن يفكرن بالأولوية بالنسبة لهن ، وبأكثر جانب يعتقدن أنّ التغيير به أهم في هذه المرحلة. ولم يعد النَفَس في توجيه المطلب هو نَفس شحدة الحقوق بل نَفس فيه تحميل مسؤولية محددة لجهات معينة تطالبها بالمشاركة مع أهل الموضوع لتحقيق هذا المطلب لا أن تعمل وحدها.

التغيير الملاحظ كان أيضا أنّ المطالب لم تعد موجهة فقط للحكومة والوزارات و المجتمع بل أصبحت أيضا موجهة للمتعايشين والمتعايشات وهذا تغير جوهري يعني أن المتعايشات انتقلن من تحميل مسؤولية التغير للآخرين إلى أنفسهم أيضا، وشعرن أنهن جزء من التغير الذي يطالبن به وأن هناك التزامات وتغيرات يجب عليهن القيام بها كجماعة وكأفراد.

 

5-الانتقال من شخص مُطالب من الآخرين بأن يحكي قصتّه، لشخص يحكي قصته  بقرار ووعي منه و بالوقت الذي يريده وللأشخاص الذي يريدهم:

فالمتعايشات كنّ معتادات على حكاية قصصهن الشخصية وبالأغلب يحكينها لأنهم يشعرن أنهن مطالبات لفعل ذلك، من الأطباء والمحامون و المعالجون والأصدقاء والمؤسسات حيث يطلب منهن حكاية قصصهن لتوثيق المأساة لا لتحريك وتحرير القوة الداخلية للتغير. وربما شعورنا بأننا مطالبون لنحكي قصتنا هو ما يجعلنا نحكيها بنفس “الضحية” أو “البطلة”.

 

في النهاية، أوجز هنا خلاصة التغيرات التي وعيت أكثر من أي وقت أن العمل القصصي يحدثها فينا:

1. ننتقل من أشخاص مُطالبين بمشاركة قصصهم بهدف توثيق المأساة او مجرد حكياتها ،إلى أشخاص يشاركون قصصهم مظهرين القيم والقوة.

2. نحكي عن أنفسنا و عاطفتنا بدون أن نخفي الألم و نسقط الأمل.

3. نفتّش عن “النحن” ونحكي عنها ولا نكتفي “بالأنا”

4. نحن شركاء بالتغير الذي نطالب به ولسنا الحلقة الأضعف التي تنتظر تحرّك الآخرين.

 نطلب طلب محدد واضح وبالتالي لا نحكي بنَفَس من يشحد حقوقه بل من يُشعر الآخرين بمسؤوليتهم للقيام بواجبهم اتجاه هذه الحقوق.